هل للحيوانات عقل ؟
هل للحيوانات عقل وفهم مثل الإنسان :
فإن كانت الإجابة " لا "، فكيف فهم هدهد سيدنا سليمان عليه السلام سجود بلقيس للشمس ، وتعجب من ذلك ، إضافة إلى أن الله عز وجل أخبرنا أن الطيور والحيوانات تسجد ، وتصلي ، وتسبح ، وتنطق ، فكيف تفعل كل هذا وهي لا تملك فهما ولا عقلا .
وإن كانت الإجابة " نعم "، فلماذا لم تصبح مكلفة مثل الإنسان ، طالما أن لديها عقلا مثله ، وما وجه تكريم الإنسان عن بقية الكائنات ؟
ملخص الجواب:
والخلاصة : أن العقل الذي هو مناط التكليف هو من خصائص الإنسان التي تميزه عن سائر
الحيوان .
وأن ما نشهده من سلوك الحيوانات تجاه إصلاح معاشها والتصرف بمحيطها إنما هو " هداية
" غريزية ، أودعها الله الحيوان ، من غير تعقل قادر على تقبل العلوم وتطوير
المهارات .
والله أعلم .
الجواب
الحمد لله.
يتفق جميع العلماء والعقلاء على أن الإدراك الذي ركبه الله عز وجل في الحيوانات ليس
هو العقل الغريزي ، أو ما يسميه الفلاسفة " الهيولاني " الذي كان الفارق الحقيقي
بين الإنسان والحيوان ، والذي أدخل الإنسان دائرة التكليف والمسؤولية .
وأما الحيوان ، فما وهبه الله سبحانه مما نراه في إدراكه طرق تدبير معيشته ،
والخضوع لخالقه ، سماه القرآن الكريم " هداية "، وذلك في قول الله سبحانه : ( قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه/50. ويسميه
العلماء في كتبهم " إدراك الحيوان "، أو " فطنة الحيوان "، أو " حيلة الحيوان "،
ونحو ذلك من الأسماء.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" أُعطِيَت [يعني الحيوانات] من التمييز والإدراك ما تتم به مصلحتها ومصلحة من ذللت
له ، وسلبت من الذهن والعقل ما ميز به عليها الإنسان ، وليظهر أيضا فضيلة التمييز
والاختصاص " انتهى من " مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة " (1/ 234)
.
نعم ، سمى بعض العلماء هذه " الفطنة الحيوانية " عقلا ، كما فعل ابن العربي رحمه
الله في كتابه " أحكام القرآن " (3/472-473) .
لكن مثل هذا الوصف للحيوان بالعقل لا يقصد به على الإطلاق : "العقل الإنساني" الذي
هو " ملكة حاصلة بالتجارب ، يستنبط بها المصالح والأغراض ، ويحصل به الوقوف على
العواقب ، و[التمييز] بين الأمور الحسنة ، والقبيحة " كما في " شرح التلويح "
(2/312) .
وإنما يراد به ، ما سبق ذكره ، من أنه إدراك تدبير شؤون معاشها بالغريزة والحيلة ،
وإدراك ما ألهمها الله سبحانه ، وركبه في طبيعة خلقها من أمور تهتدي بها إلى
مصالحها ، وقوام عيشها .
هكذا ينبغي أن نفهم النصوص التي تتحدث عن " هداية الحيوان "، سواء في القرآن الكريم
أم في السنة النبوية .
ولهذا لم يكن الحيوان مكلفا أبدا ، لأنه لا يملك العقل الذي ينمو ويدرك عواقب
الأمور ، ويصبح هو المحرك للفعل الحيواني .
يقول السرخسي رحمه الله :
" [العقل] عبارة عن الاختيار الذي يبتني عليه المرء ما يأتي به وما يذر ، مما لا
ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس ، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة
حميدة ، ولهذا لا يعتبر من البهائم ، لخلوه عن هذا المعنى .
والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الإنسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل
فيه بعقله ، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء ، كان ذلك دليلا لنا على أنه
عاقل مميز ، وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة " انتهى من " أصول
السرخسي " (1/ 347)
ويقول نجم الدين الطوفي رحمه الله :
" العقل قوة غريزية ، يدرَك بها الكليات وغيرها ، وهو يوجد بوجود الإنسان ، ثم
يتزايد بتزايد البدن تزايدا تدريجيا خفيا عن الحس ، كتزايد الأجسام النباتية
والحيوانية في النماء ، وضوء الصبح ، وظل الشمس ، ونحوها من المتزايدات الخفية ،
فلا يمكن الوقوف على أول وقت يفهم فيه الخطاب ، فجعل الشرع بلوغه عَلَمًا ظاهرا على
أهليته للتكليف ، وضابطا له " انتهى من " شرح مختصر الروضة " (1/ 186)
أما ما وقع من الهدهد في قصته مع سليمان عليه السلام ، فقد قال بعض العلماء : إن
هذه حالة متقدمة لا يقاس عليها ، ولا نظير لها في الحيوانات ، جعلها الله تعالى
معجزة خاصة بنبي الله سليمان ، فلا يقاس عليها شأن سائر الحيوان .
قال ابن حزم رحمه الله :
" وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف ومعرفة
الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسانَ خاصة ،
وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن ، وأضفنا إليهم بالخبر الصادق وببراهين أيضا
ضرورية الملائكة .
وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة الخاصة ، وهي الحس ، والحركة الإرادية
، فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلا من يعقلها ، ويعرف
المراد بها ، وبقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )
ووجدنا جميع الحيوان - حاشا الناس - يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معايشها
وتناسلها ، لا يجتنب منها واحد شيئا يفعله غيره . هذا الذي يدرك حسا فيما يعاشر
الناس في منازلهم ، من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك ، وليس
الناس في أحوالهم كذلك ، فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع .
فإن اعترض معترض بفعل النحل ، ونسج العنكبوت !
قيل له وبالله التوفيق :
إن هذه طبيعة ضرورية ؛ لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ، ولا توجد
أبدا إلا كذلك .
وأما الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج ، والوشي ، والقباطي ، وأنواع الأصباغ ،
والدباغ ، والخرط ، والنقش ، وسائر الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ
والبناء والتجارات ، وفي أنواع العلوم من النجوم ، ومن الأغاني ، والطب ، والجبر ،
والعبارة ، والعبادة ، وغير ذلك . ولا سبيل لشيء من الحيوان إلى التصرف في غير
الشيء الذي اقتضاه له طبعه ، ولا إلى مفارقة تلك الكيفية .
فإن اعترض معترض بقول الله تعالى : ( عُلِّمنا مَنطِقَ الطَّير )، وبما ذكر الله
تعالى من قول النملة : ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) الآية ، وقصة الهدهد .
قيل له وبالله تعالى التوفيق :
لم ندفع أن يكون للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء ،
وعند الألم ، وعند المضاربة ، وطلب الفساد ، ودعاء أولادها ، وما أشبه ذلك ، فهذا
هو الذي علمه الله تعالى سليمان رسوله عليه السلام ، وهذا الذي يوجد في أكثر
الحيوان ، وليس هذا من تمييز دقائق العلوم والكلام ، ولا من عمل وجوه الصناعات كلها
في شيء ، وإنما عنى الله تعالى بمنطق الطير أصواتها التي ذكرنا ، لا تمييز العلوم ،
والتصرف في الصناعات الذي من ادعاه لها أكذبه العيان ، والله تعالى لا يقول إلا
الحق .
وأما قصة النملة والهدهد فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل ، ولذلك الهدهد ، وآيتان
لسليمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ككلام الذراع ، وحنين الجذع ، وتسبيح
الطعام لمحمد صلى الله عليه وسلم ، آيات لنبوته عليه السلام ، وكذلك حياة عصا موسى
عليه السلام آية لرسول الله موسى عليه السلام ؛ لأن هذا النطق شامل ولأنواع هذه
الأشياء " انتهى باختصار من " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (1/69-71)
ويقول أبو حامد الغزالي رحمه الله :
" العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان :
فالأول : الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم ، وهو الذي استعد به لقبول
العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية ، وهو الذي أراده الحارث بن أسد
المحاسبي حيث قال في حد العقل : إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية . وكأنه
نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء .
الثاني : هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز ، بجواز الجائزات ،
واستحالة المستحيلات ، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الشخص الواحد لا
يكون في مكانين في وقت واحد ، وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل :
إنه بعض العلوم الضرورية .
الثالث : علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال ، فإن من حنكته التجارب ، وهذبته
المذاهب ، يقال : إنه عاقل في العادة ، ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال : إنه غبي غمر
جاهل . فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا .
الرابع : أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ، ويقمع الشهوة
الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها ، فإذا حصلت هذه القوة سمى صاحبها عاقلا ، من
حيث إن إقدامه وإحجامه ، بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب ، لا بحكم الشهوة العاجلة
.
وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان .
فالأول هو الأس والمنبع ، والثاني هو الفرع الأقرب إليه ، والثالث فرع الأول
والثاني ، إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب ، والرابع هو
الثمرة الأخيرة ، وهو الغاية القصوى فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب " انتهى
من " إحياء علوم الدين " (1/85-86)