يشعر بإنكار الحساب والجنة والنار رغم محافظته على صلاته
عندما يموت الإنسان ألا يحاسب في القبر ، أو ما هو نوع حسابه بالضبط ؟
وهل الميت يمر عليه الليل والنهار ؟ كيف يكون مرور الوقت عليه ؟
وكيف يعذب الناس ويتم حسابهم ؟ وكيف يكون وضعهم في الجنة ؟ كيف يمر عليهم الوقت ؟ في ماذا يتكلمون ؟ ألا يلعبون ؟ وهل نرى جميع من مر علينا في حياتنا ؟ هل نشاهدهم ؟ هل نرى حسابهم ؟
لا أدري - أحيانا والعياذ بالله - أنكر الحساب والجنة والنار ، دائما يأتيني هذا الشعور ، مع العلم أني محافظ على صلواتي ، ولكن يأتي دائما في الصلاة وقبل النوم ، ومع العلم أني دائما أدعو بالهداية وتقوية إيماني ، وجعل همي الآخرة ، فما هو السبب في عدم تلبية دعائي ؟
أريد باختصار تقوية إيماني ؟ وهل هناك كتب تقوى الإيمان ؟
الجواب
الحمد لله.
أشد ما يحزننا في بعض الأسئلة الواردة هو انقلاب الهواجس النفسية ، ووساوس الشيطان
، في نفوس أصحابها ، إلى شبهات وهمية ، تستدعي منهم التساؤل حولها ، وعند بعضهم
تستدعي منهم اتخاذ قرار بالعدول عن عقيدته وإيمانه ، لا قدر الله ، كل ذلك نتيجة "
خواطر " نفسية ، ووساوس إبليسية ، ليس أكثر .
إذا أردتنا أن نساعدك في تقوية إيمانك ، فلا بد أن تساعد نفسك أولا ، وتشفق عليها
من مثل هذه الاختلاجات التي تعتمل في قلبك ونفسك ، وأنت لا تدرك أن مثلها يرد في
أذهان كثير من الناس ، بفعل الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، وبإصغاء
النفس الأمارة بالسوء له ؛ وإن كان ذلك لا يعني بحال من الأحوال وصوله إلى درجة "
الإنكار "، أو " الردة " عن عقيدة الإيمان بالغيب التي يتميز بها المسلم .
ولكي تدرك معنا أنها مجرد " هواجس "، وليست شبهات حقيقية ، ولا أفكارا مستقرة تحتاج
نظرا علميا حقيقيا ، تخيل أنك – لا قدر الله – استجبت لمثل هذه الهواجس ، ألا ترى
من المنطقي أن ترتد عليها أيضا بهواجس أخرى ، فتقول في نفسك : لا بد أن أرواح
الموتى ترجع إلى الدنيا ، فتنقلب إلى صورة حيوان أو إنسان آخر ، كما هي عقيدة "
تناسخ الأرواح " ، أو تقول في نفسك : من المؤكد أنهم يعيشون حياة أخرى كحياتنا
الدنيا ، كما هي عقيدة الفراعنة ، فكانوا يدفنون موتاهم مع متاعهم وأموالهم !!
هل تريد من نفسك أن تبلغ هذا القدر من الاضطراب والفوضى ، ثم تقنع نفسك أنها أفكار
حقيقية ، أو توهمها بأنك اتخذت قرارك بإنكار الحساب أو الجنة والنار .
نحن ندعوك أن تقف بين القبور يوما ، لتشاهد هيبة الحق ، الحق الذي تبعثه في النفس
أحداث هذه الدنيا الجسام ، من ظلم وعدوان ، وقيام أمم ، وانمحاق أخرى ، وتنوع البشر
، وتصارع الأمم ، لندرك أن ثمة نهاية لا بد منها ، تختتم كل ذلك بإقامة الحق والقسط
بين الناس ، فكل قصة لا بد لها من خاتمة ، وكل حكاية تنتهي إلى نهاية ، ولا أعظم من
حكاية الأرض وما يجري عليها، ولا تردد في أن أهوال ما يجري فيها لن يمر عبثا ، ولن
يذهب سدى ، بل سيقتص للحق من الباطل ، وللعدل من الجور والظلم .
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
" الدليل النفسي على وجود العالم الآخر أن الإنسان يدرك بالحَدْس أن هذا العالم
المادي ليس كل شيء ، وأن وراءه عالماً روحياً مجهولا ، يدرك منه لمحات تدل عليه .
ذلك أن الإنسان يرى اللذات المادية محدودة ، إذا هي بلغت غايتها ووصلت إلى حدها ،
لم تَعُد اللذةُ لذةً ، ولكن صارت (عادة) ، فذهب طعمها ، وبطل سحرها ، وصارت
كالنكتة المحفوظة ، والحديث المعاد .
يبصر الفقير سيارة الغني تمر به ، وعمارة الغني يمر بها ، فيحسب أنه يحوز الدنيا إن
حاز مثلها ، فإن صارت له ، لم يعد يشعر بالمتعة بها .
ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب ، يظن أن متع الدنيا كلها بحبه ، والأماني كلها في
قربه ، فإذا تزوج التي يحب ، ومر على الزواج سنتان ، اضمحلت تلك الأماني ، وماتت
تلك المتع ، ولم يبق له منها إلا ذكرها .
ويمرض المريض ويتألم ، فيتصور اللذة كلها في ذهاب الألم والشفاء من المرض ، فإذا
عاودته الصحة ، ونسي أيام المرض ، لم يعد يرى في الصحة شيئا من تلك اللذات .
ويتمنى الشاب " الشهرة "، ويفرح إن أذاعت الإذاعة اسمه ، ونشرت الصحف رسمه ، فإذا
هو اشتهر وصار اسمه ملء السمع ، وشخصه ملء البصر ، صارت له الشهرة أمراً معتادا .
ثم يجد أنه ... يقرأ القصة العبقرية ، للأديب البارع ، فيحس كأنها تمشي به في مسارب
عالم مسحور ، فيه مع السحر شعر وعطر ، فإذا انتهت القصة ، رأى كأنه كان في حلم
لَذيذ فتّان ، وصحا منه ، فهو يحاول عبثا أن يعود إلى لذته وفتونه .
ويعيش في لحظات التجلي ، حين تصفو النفوس بالتأمل فتتخفف من أثقال المادة ، فتعلو
بجناحين من الصفاء والتجرد ، حتى تصل إلى حيث ترى الأرض وما عليها ، أصغر من أن
ينظر إليها ، لما تجد من لذة الروح التي لا تَعْدلها لذة الطعام للجائع ، ولا لذة
الوصال للمحروم ، ولا لذائذ المال والجاه للفقير المغمور .
وإذا بالنفس تتشوق أبدا إلى هذا ( العالم الروحي ) العلوي ، العالم المجهول ، الذي
لا تعرف منه إلا هذه اللمحات ، التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي ، وهذه النفحات
التي لا تهب حتى تسكن . فيعلم أن اللذات المادية محدودة ، وأن اللذات الروحية أكبر
منها كبرا ، وأعمق في النفس أثرا . ويُوقن ( بالحدس النفسي ، لا بالدليل العقلي ) ،
أن هذه الحياة المادية ليست كل شيء ، وأن العالم المجهول ، المختبئ وراء عالم
المادة حقيقة قائمة ، تحن إليها الأرواح ، وتحاول أن تطير إليها ، ولكن هذا الجسد
الكثيف يحجبها عنها ، ويمسكها عن أن تنطلق وراءها .
وهذا هو الدليل النفسي على وجود العالم الآخر .
الاعتقاد بوجود الحياة الأخرى نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله ، وبيان ذلك أن
الإله لا يكون إلا عادلا ، والعادل لا يقرّ الظلم ، ولا يدع الظالم بغير عقاب ، ولا
يترك المظلوم من غير إنصاف ، ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالما ويموت ظالما
لم يعاقب ، ومن يعيش مظلوما ويموت مظلوما لم ينصف ، فما معنى هذا ؟ وكيف يتم هذا ما
دام الله موجودا ، وما دام الله لا يكون إلا عادلا ؟
معناه : أنه لا بد من ( حياة أخرى ) يكافأ فيها المحسن ، ويعاقب المسيء . وأن (
الرواية ) لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا .
ولو أنه عرض ( فلم ) في الرائي ( التلفزيون ) ، فقطع من وسطه ، وقيل ( انتهى )، لما
صدق أحد من المشاهدين انه انتهى ، ولنادوا ماذا جرى للبطل ؟ وأين تتمة القصة ؟ ذلك
لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يتم القصة ، ويسدد حساب أبطالها .
هذا والمؤلف بشر ، فكيف يصدق عاقل ، أن (قصة) الحياة تنتهي بالموت ؟ كيف ؟ ولم يسدد
بعد الحساب ، ولا اكتملت الرواية ؟
فأيقن العقل من هنا أن لهذا الكون ربا ، وأن بعد الدنيا آخرة ، وأن ذاك العالم
المجهول ، الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الأغنية الحالمة ، والقصة البارعة ،
واستروحت نفحة من عطره في ساعة التجلي ، ليس عالم المثل الذي كان خيالا صاغه
أفلاطون ، ولكنه عالم الآخرة ، الذي هو حقيقة أبدعها خالق أفلاطون . ورأى أن أكبر
لذائذ الدنيا لذة الوصال ، لا تدوم إلا نصف دقيقة ، فعلم أنها ليست إلا مثالا من
لذات الآخرة ، إنها لقمة من الطعام تذوقها ، فان أعجبك اشتريت منه فأكلت حتى شبعت .
إنها نموذج تجاري تراه ، فإن ارتضيته طلبت البضاعة .
إن هذه اللذة التي لا تدوم إلا نصف دقيقة ، مثال مصغر للذات العالم الآخر ، التي
تدوم أبدا ، والتي لا حد لها تقف عنده ، والتي تبقى ( لذة ) دائما ، لا تصير ( عادة
) ، كما تصير اللذات في الدنيا عادات " انتهى بتصرف يسير من " تعريف عام بدين
الإسلام " (ص/49-51) .
فالنصيحة التي نخلصها لك لوجه الله تعالى أن تدع عنك هذا التفكير الطائش ، وتصرف
قلبك عن كل تلك الوساوس ، وتتقي الله في نفسك وعقلك ، فالجنون الحقيقي هو إنكار
الخالق جل وعلا رغم عظمة هذا الخلق الذي نشاهده في أنفسنا وبديع ما حولنا في الكون
، فلا تبع آخرتك بهواجس نفسية ساذجة .
وانظر في شأن الوساوس في الإيمان : جواب السؤال رقم : (39684)
، ورقم : (210669) .
وللمزيد يرجى النظر في الفتوى رقم : (14041)
، (20059).
والله أعلم .