الحمد لله.
ووجه الإشكال في هذا الحديث
: أنّ ظاهره يفيد ؛ أنّ كل من مات وهو موحد لله تعالى فهو مغفور له وإن كانت عنده
كبائر من الذنوب .
وظاهر ذلك أيضا : أن هذه المغفرة ليست مقيدة بتوبتهم من هذه المقحمات ، بل الذي
يشترط لها : ألا يشرك بالله شيئا .
وهذا يقتضي أنه لا يدخل النار أحد من الموحدين لله تعالى .
وهذا المفهوم يعارض ما ثبت بالسنة المتواترة والإجماع أنّ أصنافا من الموحدين
يدخلون النار بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" فقد تقررت نصوص الشرع ، وإجماع أهل السنة : على إثبات عذاب بعض العصاة من
الموحدين " انتهى من " شرح صحيح مسلم " (3 / 3) .
ولرفع هذا التعارض ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالغفران هو عدم الخلود في
النار .
وجعلوا دلالة هذا الحديث مطابقة للنصوص التي فيها خروج أهل التوحيد من النار بعد
دخولهم فيها .
كحديث أنس بن مالك عن الشفاعة ؛ وفيه أن الله تعالى يقول : ( وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي
وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ) رواه البخاري (7510) ، ومسلم (193) .
لكن هذا الاحتمال بعيد ؛ لأن
سياق الحديث يثبت أن هذا الأمر من خصائص هذه الأمة ، وعدم الخلود في النار لأهل
المعاصي من المؤمنين ليس خاصا بهذه الأمة .
قال الملا علي القاري رحمه الله تعالى :
" وأبعد من قال : أراد بغفرانها أن لا يخلد أحد منهم في النار ، لا أن لا يعذب أصلا
؛ إذ فيه أنه لا خصوصية حينئذ ، قطعا " انتهى من " شرح الشفا " (1 / 402) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن
المقصود به بعض الموحدين وليس كلهم .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" ويحتمل أن يكون المراد بهذا خصوصا من الأمة ، أي يغفر لبعض الأمة المقحمات ، وهذا
يظهر على مذهب من يقول إن لفظة " من " لا تقتضي العموم مطلقا ، وعلى مذهب من يقول
لا تقتضيه في الأخبار ، وإن اقتضته في الأمر والنهي ، ويمكن تصحيحه على المذهب
المختار وهو كونها للعموم مطلقا ، لأنه قد قام دليل على إرادة الخصوص ، وهو ما
ذكرناه من النصوص والإجماع . والله أعلم " انتهى من " شرح صحيح مسلم " (3 / 3) .
وقد أشار عدد من أهل العلم
إلى هذا ؛ أي عدم عموم هذا الحديث ، وإنما هو متعلق بمشيئة الله تعالى ، ومما
استدلوا به قول الله تعالى :
( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء /48.
قال الملا علي القاري رحمه الله تعالى :
" ( وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا ) أي من الشرك ( مِنْ أُمَّتِهِ
، الْمُقْحِمَاتُ ) أي السيئات المهلكات أهلها ، ولو من غير توبة .
وفيه إشارة إلى أنه من خصوصيات هذه الأمة المرحومة ، ببركة نبي الرحمة ، لكنه مع
هذا تحت المشيئة ، ومختص بمن تعلقت به الإرادة لقوله تعالى : ( وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) فاندفع ما أورده الدلجي من وجه الإشكال بقوله : يفيد
ظاهره العموم ، فيلزم أنه لا يعذب أحد مع الإجماع على تعذيب بعض عصاة المؤمنين أي
من هذه الأمة وإلا فلا إشكال " .
انتهى من " شرح الشفا " (1 / 402) .
وقال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي :
" عندي أن ما تقدم في كلام النووي رحمه الله من حمل "من" على الخصوص للأدلة
المقتضية لذلك هو الأولى ، جمعا بين الأدلة .
والحاصل أن المراد بالأمة بعضهم ، فيغفر الله تعالى لبعض الأمة جميع ذنوبهم ؛
صغائرها وكبائرها ما عدا الشرك ، قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ
أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ، فبعض الأمة هم
الذين شاء الله تعالى أن يغفر ذنوبهم جميعها . فتبصر . والله تعالى أعلم " انتهى من
" ذخيرة العقبى " (6 / 97 - 98) .
فالحاصل ؛ أن أهل التوحيد من
هذه الأمة اختصوا بأنّ منهم من تغفر له كبائر ذنوبه ، لكن هذا راجع إلى مشيئة الله
تعالى .
والله أعلم .