الحمد لله.
القياس لا يلجأ إليه المجتهد ، إلا عند عدم النصوص الشرعية المصرحة بالحكم ، أو
الإجماع الثابت .
فإذا عدم النص ، فحينئذ يلجأ المجتهد إلى القياس الصحيح ليستنبط منه الحكم الشرعي .
والقياس الصحيح من جملة العدل الذي أمر الله تعالى به، وحقيقته الجمع بين
المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، وذلك يكون باعتبار المعاني المؤثرة التي جعلها
الله تعالى مناطا للأحكام.
وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )
الحديد/ 25 .
والميزان المذكور في الآية الكريمة هو العدل ، ويدخل فيه القياس الصحيح الذي يقتضي
التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين ، يقول ابن تيمية - رحمه الله
تعالى – في "المستدرك على مجموع الفتاوى" (2 / 155) ـ :
"القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، والجمع بين
الأشياء التي جمع الله ورسوله بينها فيه ، والتفريق بينها فيما فرق الله ورسوله
بينها فيه.
والقياس: هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطا للحكم،
وذلك المعنى يكون لفظًا شرعيًّا عامًا أيضًا، فيكون الحكم ثابتا بعموم لفظ الشارع ،
ومعناه" انتهى.
ويقول في "مجموع الفتاوى" أيضا (19 / 176) : " الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ حَقٌّ؛
فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْعَدْلِ ، وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ مَعَ
الْكِتَابِ ، وَالْمِيزَانُ يَتَضَمَّنُ الْعَدْلَ ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ
.
وَقَدْ فَسَّرُوا إنْزَالَ ذَلِكَ : بِأَنْ أَلْهَمَ الْعِبَادَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ
.
وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفَيْنِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ"انتهى.
وقال الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (7 / 30):" وَاحْتَجَّ ابْنُ
سُرَيْجٍ [يعني على حجية القياس] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [النساء: 83] فَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ،
وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ.
فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، كَالنَّصِّ فِي إثْبَاتِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) [البقرة: 26] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ
الشَّيْءِ ، فَإِذَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ،
لِيُرِيَكُمْ وَجْهَ مَا تَعْلَمُونَ ؛ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنْ
الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ : أَجْوَزُ.
وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [يس/ 79] ؛
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْإِعَادَةِ ، قِيَاسًا....
وَاحْتَجَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل: 90] ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ: هُوَ
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مِثْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ "
انتهى.
وقد جاءت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في إثبات حجية القياس.
قال الزركشي :
" الثَّانِي : دَلَالَةُ السُّنَّةِ: كَحَدِيثِ مُعَاذٍ " أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي
وَلَا آلُو "، وَقَالَ النَّبِيُّ فِي خَبَرِ الْمَرْأَةِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ
عَلَى أَبِيك دَيْنٌ ، وَقَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ
وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ
أَجْرٌ ، وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ فَزَارَةَ أَنْكَرَ وَلَدَهُ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ
أَسْوَدَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ:
حُمْرٌ، قَالَ: فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ:
لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ .
قَالَ الْمُزَنِيّ: فَأَبَانَ لَهُ بِمَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحُمْرَ مِنْ الْإِبِلِ
، تُنْتِجُ الْأَوْرَقَ ؛ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْبَيْضَاءُ تَلِدُ الْأَسْوَدَ،
فَقَاسَ أَحَدَ نَوْعَيْ الْحَيَوَانِ عَلَى الْآخَرِ.
وَقَالَ لِعُمَرَ، وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْت
لَوْ تَمَضْمَضْت وَمَجَجْته؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ فَقَالَ: فَفِيمَ؟ . قَالَ
الْمُزَنِيّ: فَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا
شَيْءَ فِي الْمَضْمَضَةِ .
...... وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَصَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا فِي أَقْيِسَةِ النَّبِيِّ.
وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَاعْرِفْ
الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَك" انتهى من "البحر المحيط في
أصول الفقه "(7 / 32).
وعلى ذلك فإن كان هذا الرجل من أهل العلم ، ويستعمل القياس الصحيح بشروطه التي
من أهمها : ألا يكون القياس في مقابلة النص الشرعي ، أو الإجماع الثابت ، وألا يلجأ
إلى ذلك إلا بعد استفراغ وسعه في طلب النص ، ومعرفة مواضع الإجماع والخلاف عند أهل
العلم .
فإذا حقق شروط الاجتهاد والقياس : فلا مانع من الأخذ بفتواه.
أما إذا كان هذا العالم لا يأخذ بالإجماع لأنه لا يراه حجة ، فهذا قول ضعيف شاذ ،
وقد سبق في الفتوى رقم : (197937) بيان الأدلة على حجية الإجماع .
وفي هذه الحالة يؤخذ من فتاواه ما لا يخالف الإجماع ، أما ما خالف الإجماع فلا عبرة
به .
بل مثل هذا يتحرز المسلم فيما يقوله ويفتي به مطلقا ، ما أمكنه الاستغناء عنه بغيره
من أهل العلم الثقات .
والله أعلم.