الحمد لله.
أولا :
نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام من أولي العزم من الرسل ، وكلهم من البشر من
بني آدم ، وهو من ذرية آدم ونوح وإبراهيم عليهم السلام ، لا نعلم في ذلك خلافا بين
المسلمين .
قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ
الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا
فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) الأنعام/ 84 - 86 .
فهذا نص في أن عيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم عليه السلام أو نوح ، لأن الضمير
في قوله : (ومن ذريته) قيل : عائد إلى نوح لأنه أقرب مذكور ، وقيل : عائد إلى
إبراهيم لأن الآيات تتحدث عنه .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وَفِي ذِكْرِ "عِيسَى"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي ذُرِّيَّةِ "إِبْرَاهِيمَ" أَوْ
"نُوحٍ"، عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ دَلَالَةٌ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبَنَاتِ فِي
ذُرِّيَّةِ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ "عِيسَى"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا يُنْسَبُ
إِلَى "إِبْرَاهِيمَ" عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمِّهِ "مَرْيَمَ" عَلَيْهَا
السَّلَامُ ، فَإِنَّهُ لَا أَبَ لَهُ .
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ:
أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمُر فَقَالَ: بَلَغَني أَنَّكَ
تَزْعُمُ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ
أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ سُورَةَ
الْأَنْعَامِ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ) حَتَّى بَلَغَ
(وَيَحْيَى وَعِيسَى) ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ؟ قَالَ: صَدَقْتَ .
فَلِهَذَا إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِذَرِّيَّتِهِ ، أَوْ وَقَفَ عَلَى
ذُرِّيَّتِهِ أَوْ وَهَبَهُمْ ، دَخَلَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِيهِمْ " انتهى من
"تفسير ابن كثير" (3/ 298) .
وأيضا : فآدم عليه السلام
أبو البشر ، وعيسى عليه السلام من البشر .
وفي حديث الشفاعة : ( يُحْبَسُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا
بِذَلِكَ ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ
مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ ...
)رواه البخاري (7440) ، وفي لفظ له (7516) : ( أَنْتَ آدَمُ أَبُو البَشَرِ ... ) .
ثانيا :
أما قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران/ 59 .
فأراد الله بهذا أن يقيم الحجة على هؤلاء الكافرين الذين يزعمون أن عيسى ابن الله
لأنه ولد لغير أب ، فبين الله لهم أن ولادته لغير أب من دلائل ربوبية الله وقدرته
ووحدانيته سبحانه ، كما خلق آدم من غير أب ولا أم .
قال ابن كثير رحمه الله :
" يَقُولُ تَعَالَى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ) فِي قُدْرَةِ اللَّهِ
تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ (كَمَثَلِ آدَمَ) فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَالَّذِي خَلَقَ آدَمَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ عِيسَى
بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ الْبُنُوَّةِ فِي
عِيسَى بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ ، فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ
بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ،
فَدَعْوَاهَا فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا ، وَلَكِنَّ
الرَّبَّ عَزّ وَجَلَّ، أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ ، حِينَ خَلَق
آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى ؛ وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا
أُنْثَى ، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ
الْبَرِيَّةَ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
مَرْيَمَ: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) مَرْيَمَ/ 21 " انتهى من "تفسير ابن
كثير" (2/ 49) .
وانظر السؤال رقم : (10277) .
والله أعلم .