النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أركان الإسلام، وعلَّمنا ديننا. وازدهرت الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، وانتشر العلم، ووصل للأندلس، ولكل بقاع الدنيا. كيف وصل المسلمون لهذه العلوم رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها لنا ؟ كيف حصلت هذه النقلة الحضارية في العلوم والثقافات؟
الحمد لله.
النقلة الحضارية الكبيرة التي خطاها المسلمون، من حياة الصحراء، إلى عقلانية التفكير وازدهار المدينة وارتقاء العلم، كلها مدينة إلى التأثير القرآني والنبوي في طرائق تفكير المسلمين، وفي وعيهم ولا وعيهم، وفي البنية النفسية والعقلية للأمة المسلمة، حيث كان العلم والبحث والعقل محاور مهمة في النصوص الشريفة، ومقاطع أساسية في الخطاب الإلهي المنزل، والشريعة المحكمة.
ولبيان هذه المحورية المركزية للعلم في الثقافة الإسلامية، نورد مجموعة من الأدلة:
أولا:
محاربة الأمية ، ولعلها بدأت من قول الله عز وجل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1 – 5] وهي آيات خالدات تتلى إلى يوم القيامة، وفيها إشارة تنبه المسلمين إلى أهمية القراءة، والعلم، والقلم، وتترك فيهم همًّا مكنونا نحو هذه المقاصد الأساسية.
وهنا يستحضر العلماء ما رواه ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (2/ 22) قال: أخبرنا الفضل بن دكين، أخبرنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال:
(أَسَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سبعين أسيرا، وكان يفادي بهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلَّمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه)
وقد امتدت هذه الحملة لمحاربة الأمية في القطاع النسائي، فكانت المتعلمة تجود بعلمها على الأمية، فتعلمت أم المؤمنين حفصة الكتابة من الشفاء بنت عبد الله، كما في “مسند أحمد” (45/46).
وتطورت المسيرة أيضا لتعلم اللغات الأجنبية، ولم تقتصر على اللغة العربية، كما ثبت عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ اليَهُودِ. حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ، إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ) رواه البخاري في “صحيحه” (رقم7195)
ثانيا:
المنظومة الزخمة من النصوص الشرعية التي تبين فضيلة العلم، وتعلي من شأن العلماء، وتقرنهم بالملائكة رفعةً ومنزلة، وتفضل اجتهادهم في علمهم – مع الصديقية – على سائر الأعمال.
وقد سبق التوسع في سرد هذه الأدلة والفضائل، في موقعنا في الجواب رقم: (10471)، (47273)، (11920)، (198486)
ثالثا:
بناء العقلية العلمية المفكرة الباحثة، التي لا تقبل بالظن المتوهم، ولا بالتقليد الأعمى، ولا بالخرافة والأسطورة، بل تستشعر المسؤولية الشرعية الأخروية في اعتماد المنهجية البحثية الموضوعية، وذلك لقول الله عز وجل: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]
ولهذا كانت الأمة الإسلامية أمة البرهان والدليل، حتى إنك – من زخم ورود المطالبات البرهانية والمحاججات العقلية في عشرات الآيات الكريمات – تتحقق أن “البرهان” – أو “السلطان” ، أو “الحجة” .. – : هو الأساس الفارق بين العقل المسلم والعقل الجاهلي.
قال تعالى : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) النساء/174
وقال تعالى : (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) القصص/75
وقال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) الأنبياء/24
وقال تعالى : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنعام/81
وقال تعالى : (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ* فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الصافات/156-157
وقال تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) الأنعام/149
قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف: 4]
واجتناب التفكير الأهوائي والرغائبي: ركن أساسي في منهج البحث الإسلامي، كما قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]، وتصحبه الدعوة إلى التعقل، والتفكر، والتأمل، والتدبر، والتبصر، والنظر، وغيرها من المفردات المشحونة بالدلالات العميقة والهامة في بناء المنهجية البحثية العقلية المنتجة، ليس في آية واحدة فقط، ولا في آيتين، بل في مئات الآيات الواضحة الدلالة، كلها تخلق في نفس قارئها وتاليها منظومة متكاملة للنظر والبحث والمعرفة المنهجية .
رابعا:
ذم التقليد الأعمى حاضر دائما في الدلالات الشرعية، منها قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170].
ولا يخفى أن الاجتهاد وإعمال العقل واجتناب التقليد كيفما اتفق ، من أهم أسس الإبداع والنجاح، لما في هذا النوع من التقليد من تعطيل للعقل، وقتل للموهبة، ودفن لإمكانات الإنسان الهائلة التي خلقها الله لتنطلق في هذا الكون الفسيح إعمارا وبناء وإصلاحا.
خامسا:
التأسيس للعلم التجريبي، الذي يعتمد البرهان الاستقرائي، القائم على ملاحظة الحالات، وتسجيل المشاهدات، وقياس اطرادها في جميع الظروف والشروط، ثم استنباط القانون الاستقرائي الذي هو أساس الحضارة المدنية اليوم. والفضل في تطوير هذا المنهج يعود إلى الفكر الإسلامي. كما يقول الدكتور علي سامي النشار:
“تنبه الأصوليون إلى أن منهجهم الاستقرائي هو منهج العلم. وقد رأينا القرافي وهو بصدد بحثه لمسلك الدوران في أصول الفقه يقول: الدورانات عين التجربة. وقد تكثر التجربة فتفيد القطع. كما أن رضي الدين النيسابوري يؤكد أن جملة كثيرة من قواعد علم الطب إنما ثبتت بالتجربة، وهي الدوران بعينه. ورأينا ابن تيمية – مؤرخ المنهج الاستقرائي الإسلامي – يخوض في التجريبيات، ويقرر أنها طريق العلم، وبخاصة في الطب. انتقل المنهج إذن من القانون إلى التطبيق، ومارسه علماء المسلمين التجريبيين” انتهى من “مناهج البحث” (ص335)
سادسا:
فسح فرصة الاستفادة من علوم الأمم الأخرى، وما بين أيديهم من معارف وخبرات، على حد القول المأثور: “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها”
يقول ابن عبد البر رحمه الله:
“ورُوينا عن علي رحمه الله أنه قال في كلام له: العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنفْ أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه” انتهى من “جامع بيان العلم وفضله” (1/ 421)
سابعا:
أضف إلى ذلك كله محاربة السحر والشعوذة والتنجيم والكهانة، وذم التواكل المعرفي الناتج عنها، ونفي التطير والتشاؤم المُقْعِد عن العمل، ورفض ربط الحوادث الأرضية بخرافات غيبية اعتباطية، وشواهد ذلك كثيرة في الكتاب والسنة.
ثامنا:
عقلية الأسباب التي تنضح بها نصوص الكتاب والسنة، والتي تربط كل ما في الكون بمبدأ السبب والمسبب ذي الأثر الكبير في عقول الناس، وغالبا ما يسبب ضعف الإيمان بهذا المبدأ أحوالا من الجهالة والعماية والتخلف، ويشكل غيابه سدا منيعا في وجه العقل أن يتعلم ويتقدم ويتطور، فحين ينفرط من عقده التلازم بين الأسباب والمسببات، ينفرط كل تلازم بعده ، وتنحل قواعد التفكير ومبادئ العلوم، وتسود العقلية العبثية، التي هي مرتع خصب للجهل.
تاسعا:
لما كان الإنسان مستخلفا على هذه الأرض، وهدف استخلافه هو “إحسان العمل وصلاحه”، واستيقن المسلم أنه في جميع شأنه يسير في هذا المخطط الإلهي للبشرية جمعاء، كما قال سبحانه وتعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وقال عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) كان لا بد أن تنعكس هذه الرؤية الكلية بناء وعملا وإنتاجا في الدنيا، وذلك لا يكون إلا بالعلم وأنواره.
يقول الدكتور عماد الدين خليل:
“ومهما يكن من أمر، فإن تنفيذ مهام الخلافة، ومنحها الضمانات الكافية، وإعانتها على تحقيق أهدافها في التقدم الدائم، لن يتأتى بدون اعتماد طرائق البحث العلمي ومناهجه للكشف عن سنن العالم والطبيعة ونواميس الكون من أجل الإفادة من طاقاتهما المذخورة، وتحقيق قدر أكبر من الوفاق بين الإنسان وبين محيطه.
وبدون هذا، فإن مبدأ الاستخلاف لن يكون بأكثر من نظرية أو عقيدة تسبح في الفراغ …
ومبدأ (التسخير) الذي هو ملمح أساسي من ملامح الرؤية الإسلامية للكون والعالم والحياة والإنسان، يحتم ولا ريب اعتماد العلم لتحويله إلى أرض الواقع، والتحقق بعطائه الكريم ..
إن العالم والطبيعة – وفق النظرة الإسلامية – قد سخرا للإنسان تسخيرا، وإن الله سبحانه قد حدد أبعادهما وقوانينهما ونظمهما وأحجامهما بما يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان في العالم وقدرته على التعامل مع الطبيعة تعاملا ايجابيا فاعلاً.
إن هنالك آيات ومقاطع قرآنية عديدة تحدثنا عن هذا التسخير للعالم والطبيعة، لخدمة الدور الذي أنيط بالإنسان في الأرض، وهي تمنحنا التصور الإيجابي لدور الإنسان الحضاري، ينأى كلية عن التصورات السلبية لعديد من التفاسير الوضعية التي جردت الإنسان من كثير من قدراته الفاعلة ، وحريته في حواره مع كتلة العالم، وتطرف بعضها فأخضعه إخضاعا كاملا لمشيئة هذه الكتلة ، وإرادة قوانينها الدينامية الخاصة التي تجيء بمثابة أمر لا راد له، وليس بمقدور الإنسان إلا أن يخضع ويساير ويتقبل هذا الذي تأمر به .. ” (ص18-23)
ويقول أيضا:
“ومن ثم، فلا يتصوَّرَنَّ أحد أن القرآن ما جاء إلا لكي يؤكد في موقفه من العمل الحضاري على الجوانب الأخلاقية والروحية فحسب. إننا بإزاء آيات عديدة تضع الجماعة البشرية المؤمنة في قلب العالم والطبيعة، وتدفعها إلى أن تبذل جهدها من أجل التنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة، وفي صميم العلاقات المادية بين الجزيئات والذرات ..
إننا بإزاء حركة حضارية شاملة، تربط وهي تطلب من الإنسان أن ينظر في السماوات والأرض بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع، بين التلقي عن الله والتوغل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وأغاميضها، بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض، وبين تسخير قوانين الكيمياء والفيزياء والرياضيات لتحقيق نفس الدرجة من التقدم والعلو الحضاري على المستوى المادي (المدني) .
ولم يفصل القرآن يوما بين هذا وذاك، إنه يقف دائما موقفا شموليا مترابطا ويرفض الفصل والتقطيع والتجزيء في تقييم الموقف (الحيوي) أو الدعوة إليه.
ولقد انعكس هذا (التوحد) بين قيم الروح والمادة ، بوضوح كامل عبر مسيرة الحضارة الإسلامية التي قطعت القرون الطويلة وهي تحتفظ بتوازنها المبدع بين الطرفين، وأنجزت وابتكرت وكشفت ونفذت الكثير الكثير من المعطيات الحضارية التي لم تهمل جانبا من الجوانب المرتبطة جميعا ، ارتباطا متينا ، بخلافة الإنسان ودوره الحضاري في العالم …” (ص51)
ورجاؤنا أن يكون ما نشهد اليوم من تعطل للدفع الحضاري السابق، إنما هو تعطل مؤقت بإذن الله، ورجاؤنا أيضا : أن يزول ذلك ، بفضل الله وتوفيقه، ثم بجهود أبناء هذه الأمة العظيمة.
ومن المراجع المهمة في هذا الموضوع:
“الإنسان في الكون بين القرآن والعلم”، لعبد العليم خضر.
“الفكر العلمي الإسلامي”، رضي الدين حقي.
“الإسلام والعلم”، شرف القضاة.
والله أعلم.