الحمد لله.
أولا :
سبق بيان وجوب صلاة الجماعة على الرجال القادرين كما في الفتاوى رقم : (8918)
، و (120)
، و(40113) .
ثانيا :
من مسئوليات الحاكم أن يأمر بصلاة الجماعة ويعاقب المتخلفين عنها ، ويلزم أصحاب
المحلات بإغلاق محلاتهم أثناء صلاة الجماعة .
ومما يدل على ذلك :
1- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب باتفاق العلماء ، لقول النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ُ: ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا
فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ) رواه مسلم (49) .
والحاكم له من القدرة على ذلك ما ليس لأفراد الأمة .
ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتغييره ، ومعاقبة من خالف ذلك : من
أهم مسئوليات الحاكم المسلم .
قال الله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) الحج/41 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية ؛ فإن الله
يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن . وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور ؛ وذلك يحصل
بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات ...
( والتعزير ) أجناس ؛ فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام . ومنه ما يكون بالحبس
. ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن . ومنه ما يكون بالضرب .
فإن كان ذلك لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة ... فإنه يضرب مرة بعد مرة حتى
يؤدي الواجب " انتهى من " مجموع الفتاوى " (28 / 107) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ، ويعاقب من لم يصل
بالضرب والحبس ...
واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كل شيء ، فإنها عماد الدين
، وأساسه وقاعدته ... ويأمر بالجمعة والجماعة وأداء الأمانة والصدق " .
انتهى من " الطرق الحكمية " (2 / 627 - 628) .
2- قد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد همّ بتحريق بيوت من يتخلف عن الصلاة في
الجماعة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَات ِ، فَقَالَ: ( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ آمُرَ
رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ
عَنْهَا ، فَآمُرَ بِهِمْ فَيُحَرِّقُوا عَلَيْهِمْ ، بِحُزَمِ الْحَطَبِ
بُيُوتَهُمْ ... ) رواه البخاري (644) ، ومسلم (651) واللفظ له .
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ، أَوْ
لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ ) رواه ابن ماجه (795) وصححه الألباني في " صحيح سنن
ابن ماجه " .
وهذا يدل على أنه يشرع للحاكم أن يعاقب المتخلف عن صلاة الجماعة ، حتى على قول من
يرى أن صلاة الجماعة سنة وليست واجبة .
قال ابن بطال رحمه الله تعالى :
" وفيه : العقوبة فى الأموال على ترك السنن ؛ لأن نبى الله لم يهم من الإحراق إلا
بما يجوز له فعله " انتهى من " شرح صحيح البخاري " (2 / 271) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" والمصر على ترك الصلاة في الجماعة : رجل سوء ينكر عليه ، ويزجر على ذلك ، بل
يعاقب عليه ، وترد شهادته ، وإن قيل إنها سنة مؤكدة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (23
/ 252) .
3- الحاكم راع للأمة ومسؤول عنها يوم القيامة .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ ،
وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) رواه البخاري (5200) ، ومسلم (1829) .
ومن أهم وظائف الحاكم ومسؤولياته التي يجب أن يرعاها ويحرص عليها ؛ هي أن يقيم دين
الأمة ويحافظ عليه ، ومن ذلك الحفاظ على شعيرة صلاة الجماعة .
ثالثا :
كان السلف يتركون محلاتهم وأسواقهم ويذهبون إلى صلاة الجماعة في المسجد ، وهذا مما
يشمله قول الله تعالى : ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ
فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) النور/37 .
رأى ابن مسعود رضي الله عنه قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة تركوا بياعاتهم
ونهضوا إلى الصلاة ، فقال : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : ( رِجَالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .
وكان ابن عمر في السوق فأقيمت الصلاة وأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد ، فقال ابن
عمر : فيهم نزلت : ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ ) .
ومَّر سالم بن عبد الله بن عمر بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم ،
فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد فتلا هذه الآية : ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ثم قال : هو هؤلاء .
انظر : " تفسير ابن جرير " (17/321) ، وابن كثير (6/68) .
وكان السلف يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أن يلزمهم الحاكم بذلك ، لعظم شأن
الدين والصلاة في نفوسهم ، فلما ضعف دين الناس وقل اهتمامهم بالصلاة ، فينبغي
للحاكم أن يلزمهم بذلك سعيًّا في إصلاح دينهم وإكماله .
فيتبيّن بهذا أن أمر الحاكم
بإغلاق المحلات أوقات صلوات الجماعة له أصل في الشرع يعتمد عليه ، وهو أمر يحقق
مصلحة مجمعا عليها ، ولا يلحق مفسدة ـ في غالب الأمر ـ بالتجار والمشترين ؛ لأنه
زمن يسير ، وما زال التجار يغلقون محلاتهم للأكل والشرب وقضاء الحاجات، فإغلاقها
لما هو أهم وما خلقنا لأجله أولى وأعظم .
وعلى الرعية طاعته في ذلك ، وعدم مخالفته ، حتى وإن كانوا يتبعون قول من يفتى بسنية
صلاة الجماعة وعدم وجوبها .
قال الله تعالى :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) النساء (59) .
قال المناوي رحمه الله تعالى :
" الإمام إذا أمر بمندوب أو مباح : وجب " .
انتهى من " التيسير بشرح الجامع الصغير " (2 / 72).
والله أعلم .