الحمد لله.
فمقام التوبة والندم من أجلّ المقامات ، روى البخاري (6308) ، ومسلم (2744) عن ابن مسعود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِن ِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ) .
ومقام العبادة والإخبات من
أجل المقامات أيضا ، وهو طريق أولياء الله العابدين . روى البخاري (6502) عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ،
وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ
عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى
أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ : كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ،
وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ
الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي
لَأُعِيذَنَّهُ ) .
وكل من التائب ، والعابد الخاشع ، يستشعر الخوف من الله ، ويؤمل في الرجاء في وجهه
الكريم ، فهو لا يزال يبكي من خشية الله ، ويبكي من استشعار عظمته وجلاله وحسن الظن
به ، فهما مقامان مستصحَبان ، لا يتخالفان ، ولا يتغايران .
وحياة القلب كحياة البدن ، فكما أن الإنسان إذا استشعر العطش قدم الشراب على الطعام
، وإذا استشعر الجوع قدم الطعام على الشراب ، فكذلك إذا استشعر القلب الخوف قدم
البكاء من خشية الله ، وإذا استشعر لذة العبادة كان بكاء استشعار القرب ولذة الطاعة
. ولا يتخالفان ، كما لا يتخالف الطعام والشراب ، ولكل لكل منهما وقته الذي يكون
فيه هو المقدم .
فمتى تذكر العابد ذنوبه كان
بكاء الخوف أفضل وأحب إلى الله ، ومتى تذكر حسن الظن بالله ، واستشعر لذة العبادة ،
كان بكاء الرجاء أفضل وأحب إلى الله ، فالعبد المؤمن بين الخوف والرجاء .
قل ابن باز رحمه الله :
" يجب على المؤمن أن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء حتى يلقى ربه " .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب " (4/ 33) .
وانظر جواب السؤال رقم : (46911) .
والحاصل : أن حاجة العبد ،
متى كان صادقا مقبلا على ربه : إلى المقامين جميعا ، وسيره إلى ربه لا يستقيم إلا
بهما جميعا .
ثم : إن فضائل الأعمال في نفسها ، والمفاضلة فيما بينها : لا تدرك بنظر ، ولا قياس
؛ إنما مردها إلى الخبر الصادق .
والله تعالى أعلم .