الحمد لله.
إذا أخذ المسلم من مال أخيه المسلم شيئا يسيرا ، مما يتسامح الناس فيه عادة ، في
بلادهم ، ولا يتشاحون فيه ، ولا تتعلق به همة أمثالهم ، وهو يعلم – أو يغلب على ظنه
- طيب نفسه بمثل هذا المال ؛ فلا حرج عليه في ذلك ؛ لأن الإذن العرفي يقوم مقام
الإذن الحقيقي ، بل لعله يعد استئذانه في مثل هذا المال الحقير من الجفاء .
وقد دل على ذلك عمومات النصوص من الكتاب والسنة .
قال تعالى : ( وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ
أَوْ صَدِيقِكُمْ ) سورة ا لنور / 61 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" إذا طابت نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله فهذا جائز ، كما كان
السلف يفعلون ، وكان أحدهما يدخل بيت الآخر ، ويأكل من طعامه مع غيبته ، لعلمه بطيب
نفسه بذلك، كما قال تعالى : (أو صديقكم) " انتهى من " الفتاوى الكبرى " (3/471) .
وقال الونشريسي :
" للصديق أن يأكل من مال صديقه بغير إذنه ، يجوز له ذلك إن علم بطيب نفسه " .
انتهى من " المعيار المعرب " (9/185) .
وجاء في الموسوعة الكويتية (26/321) :
" صرح الشافعية : أن للصديق الأكل في بيت صديقه وبستانه ونحوهما ، في حال غيبته ،
إذا علم من حاله أنه لا يكره ذلك منه .
قال الزمخشري : يحكى عن الحسن البصري : أنه دخل داره فإذا فيها حلقة من أصدقائه ،
وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها أطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليه يأكلون منها ،
فتهللت أسارير وجهه سرورا ، وضحك يقول : هكذا وجدناهم ، يريد أكابر الصحابة ومن
لقيهم من البدريين ...
وجاء في تفسير قوله تعالى : (أو صديقكم) : أنه إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ،
قام ذلك مقام الإذن الصريح " انتهى .
وقال صديق حسن القنوجي :
" ( أو صديقكم ) أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم
وبينه قرابة، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه ... إذا علم
رضاهم به بصريح اللفظ، أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة ، وخصوا هؤلاء بالذكر، لأن
العادة جارية بالتبسط بينهم " ، انتهى من " "فتح البيان في مقاصد القرآن (9/ 269) .
" وقال النووي في "شرح مسلم" (7/113) :
" الإذن ضربان :
أحدهما : الإذن الصّريح في النّفقة والصّدقة .
والثّاني : الإذن المفهوم من اطّراد العرف والعادة ، كإعطاء السّائل كسرة ونحوها
ممّا جرت العادة به ، واطّرد العرف فيه ، وعلم بالعرف رضا الزّوج والمالك به ،
فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلّم ...
واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة .
فإن زاد على المتعارف : لم يجز ، وهذا معنى قوله : ( إذا أنفقت المرأة من طعام
بيتها غير مفسدة ) ؛ فأشار إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة " انتهى .
وفي " القواعد النورانية " لشيخ الإسلام ابن تيمية :
" الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ ، فِي الْإِبَاحَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ أَوِ التَّصَرُّفِ
بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ : كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ
الْوَكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ
وَفِعْلٍ ، وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إِظْهَارِهِ
لِلرِّضَى .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ، وَكَانَ غَائِبًا ،
وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِلَى مَنْزِلِ أبي طلحة وَمَنْزِلِ جابر بِدُونِ
اسْتِئْذَانِهِمَا ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ .
وَلَمَّا دَعَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّحَّامُ سَادِسَ سِتَّةٍ :
اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ ، فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامَ الدَّاعِيَ
، وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا
دَخَلُوا مَنْزِلَهُ وَأَكَلُوا طَعَامَهُ قَالَ : ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ قَوْمٍ
قَدْ مَضَوْا .
وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ أبي جعفر: إِنَّ الْإِخْوَانَ مَنْ يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ
يَدَهُ فِي جَيْبِ صَاحِبِهِ ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اسْتَوْهَبَهُ
كُبَّةَ شَعْرٍ: " ( أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمَطَّلِبِ: فَقَدْ
وَهَبْتُهُ لَكَ ) ، وَكَذَلِكَ إِعْطَاؤُهُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ مَنْ
يَقُولُ : إِنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ .
وَعَلَى هَذَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أحمد بَيْعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وعروة بن
الجعد لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاءِ
شَاةٍ بِدِينَارٍ ، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ .
فَإِنَّ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ خَاصٌّ : تَارَةً بِالْمُعَاوَضَةِ ،
وَتَارَةً بِالتَّبَرُّعِ ، وَتَارَةً بِالِانْتِفَاعِ ، مَأْخَذُهُ : إِمَّا إِذْنٌ
عُرْفِيٌّ عَامٌّ ، أَوْ خَاصٌّ " انتهى من " القواعد النورانية " (ص 167) .
وبناء على هذا ؛ فلا حرج
عليك فيما فعلت ، إن كان الأمر على ما وصفنا في أول الجواب .
أما من أخذ من مال أخيه شيئا
وهو لا يغلب على ظنه أنه يرضى بذلك ، ولا يعلم ذلك من حالهما ، وعادتهما ؛ إما لكون
بذل هذا المال كثيرا من مثل صاحبه ، أو لأنه من شأنه وعادة المشاحة والاستقصاء في
حقه ، أو أنه قد يرضى خجلا أو حياء ، فلا يحل له ذلك ؛ لقول النبي صلى الله عليه
وسلم ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) ، رواه أحمد (20172) ، وصححه
الألباني في "الإرواء" (5/279) .
والله أعلم .