الحمد لله.
وقد أرشد النبي صلى الله
عليه وسلم إلى استعمال التورية لرفع الحرج :
روى أبو داود (940) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ
فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ)
والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
قال الطيبي : "أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف ( والرعاف هو النزيف من الأنف ) ، وليس
هذا من الكذب ، بل من المعاريض بالفعل ، ورُخِّص له في ذلك لئلا يسوِّل له الشيطان
عدم المضي استحياء من الناس " انتهى من " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 3
/ 18 ).
والحاصل : أن التورية مشروعة
عند الحاجة ، وقد استعملها الأئمة.
قال ابن قدامة رحمه الله: " روي أن مَهَنّا كان عنده [أي عند الإمام أحمد]، هو
والمروذي وجماعة ، فجاء رجل يطلب المروذي ، ولم يرد المروذي أن يكلمه ، فوضع مهنا
أصبعه في كفه ، وقال : ليس المروذي هاهنا ، وما يصنع المروذي هاهنا ؟ يريد : ليس هو
في كفه ، ولم ينكر ذلك أبو عبد الله " انتهى من "المغني" (9/ 420).
وقد ذكرنا أمثلة لذلك من فعل
الأئمة في جواب السؤال رقم : (27261)
وذكرنا فيه أنه ينبغي للمسلم ألا يستعمل التورية إلا في حالات الحرج البالغ ، وذلك
لأمور ، منها :
1-أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب .
2-فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً ، لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل
هو على ظاهره أم لا ؟
3-أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ، ولم يدرك تورية
المتكلم ، كان الموري عنده كذاباً ، وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً .
4-أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية ، لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين
.
وقد أخطأت زوجتك باستعمال
التورية على نحو ما ذكرت ، مما أدى إلى فقدان ثقتك بكلامها.
ولاشك أن الحياة الزوجية لا تستقيم مع الإكثار من التورية ؛ لأن مبنى هذه الحياة
على الثقة المتبادلة بين الزوجين واطمئنان كل منهما للآخر.
وقد ذهب بعض العلماء إلى
تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
انظر "الاختيارات" ص 563 .
فنصيحتنا أن تبين لزوجتك هذا، وأنك لا تطمئن إليها إن استعملت التورية ، ولا ترضى
بذلك.
ثانيا:
المرأة مأمورة بغض البصر عن الرجال، كما قال تعالى: ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) النور/31، ولكن نظرها
للرجال ليس كنظر الرجل للنساء عند الجمهور؛ لأن الأصل في نظرها الحل ، والأصل في
نظره الحرمة، لكن لا يعني هذا أن تنظر للغادي والرائح، بل ينبغي أن يقتصر نظرها على
الحاجة عند أمن الفتنة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( نظر المرأة للرجل لا يخلو من حالين ، سواء كان
في التلفزيون أو غيره :
نظر بشهوة وتمتع ، فهذا محرم لما فيه من المفسدة والفتنة.
نظرة مجردة لا شهوة فيها ولا تمتع ، فهذه لا شيء فيها ، على الصحيح من أقوال أهل
العلم ، وهي جائزة ، لما ثبت في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها كانت تنظر إلى
الحبشة وهم يلعبون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسترها عنهم، وأقرها على ذلك.
ولأن النساء يمشين في الأسواق وينظرن إلى الرجال وإن كن متحجبات. فالمرأة تنظر
الرجل وإن كان هو لا ينظرها ، ولكن بشرط ألا تكون هناك شهوة وفتنة. فإن كانت شهوة
أو فتنة فالنظرة محرمة في التلفزيون وغيره) نقلا عن " فتاوى علماء البلد الحرام " ص
482
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى
تحريم نظرها للرجال، فلا أقل من الاحتياط، وغض البصر إلا للحاجة.
ففي " الموسوعة الفقهية " (40/ 357): " القول الثالث : أن حكم نظر المرأة إلى الرجل
الأجنبي كحكم نظره إليها ، فلا يحل أن ترى منه إلا ما يحل له أن يرى منها ، وهذا هو
قول للشافعية في مقابل الأصح ، ورواية عن أحمد ، قدمها في الهداية والمستوعب
والخلاصة والرعايتين والحاوي الصغير ، وقطع بها ابن البنا واختاره ابن عقيل ، لكن
النووي جعله هو الأصح من مذهب الشافعية ، تبعا لجماعة من الأصحاب وما قطع به صاحب
المهذب .
وقد تقدم أن القول الصحيح الذي عليه الفتوى عند الشافعية : أن الرجل لا يحل له أن
ينظر من المرأة الأجنبية الشابة إلى أي شيء من بدنها ، وأن مقابله جواز نظره إلى
الوجه والكفين مع الكراهة .
وبناء على القول الصحيح في حكم نظر الرجل إلى المرأة ، يكون مقتضى هذا القول في حكم
نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي : هو التحريم مطلقا ، لكن قال الجلال البلقيني : هذا
لم يقل به أحد من الأصحاب ، واتفقت الأوجه على جواز نظرها إلى وجه الرجل وكفيه عند
الأمن من الفتنة " انتهى.
وينبغي إحسان الظن بالمسلم
والمسلمة ، لا سيما بين الزوجين ، كما ينبغي عدم التدقيق والتفتيش، في هذا فإنه
مدعاة للشك والوسوسة وفساد ذات البين.
ثالثا:
الإكثار من الحلف مذموم ؛ لقوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) المائدة/89،
ولا سيما إذا صاحب التورية ، فقد يقود ذلك إلى الكذب، والكذب في اليمين من كبائر
الذنوب؛ لما روى البخاري (6675) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ).
والعبرة بنية الحالف إلا إن حلفه من له ولاية التحليف كالقاضي والمحكَّم.
قال في "مغني المحتاج" (4/
475): " ( وتعتبر ) في الحلف ( نية القاضي المستحلف ) للخصم سواء أكان موافقا
للقاضي في مذهبه أم لا لحديث : (اليمين على نية المستحلِف) رواه مسلم وحمل على
الحاكم ، لأنه الذي له ولاية الاستحلاف . والمعنى فيه : أنه لو اعتبرت نية الحالف
لبطلت فائدة الأيمان ، وضاعت الحقوق ، إذ كل أحد يحلف على ما يقصد...
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يقول : من له ولاية التحليف بدل القاضي ، ليشمل الإمام
الأعظم والمحكم ، أو غيرهما ممن يصح أداء الشهادة عنده...
أما إذا حلّفه الغريم أو غيره ممن ليس له ولاية التحليف ، أو حلفه من له ذلك بغير
طلبه ، فالعبرة بنية الحالف. وكذا لو حلف هو بنفسه ابتداء ، كما قاله في زيادة
الروضة " انتهى.
نسأل الله أن يصلح حالكما
وأحوال المسلمين.
والله أعلم.