قررت التوبة ، حيث تركت المعصية ، وعزمت على عدم العودة ، إلا أني لم أجد الندم في قلبي ، فكيف أحصل الندم ، حيث من الصعب تحقيقه ؛ لأن الندم ليس بفعل ، وليس في استطاعة المكلف ؛ لأنه انفعال لا فعل ، والانفعالات ليست بالاختيار، فما وجه التكليف بالندم ، وهو غير فعل للمكلف ، ولا مقدور عليه ؟ وهل ادعو الله أن يقدف الندم في قلبي ؟
الحمد لله.
شروط التوبة الصحيحة هي:
1 – الإقلاع عن الذنب.
2 – الندم على ما فات.
3 – العزم على عدم العودة إليه.
وإذا كانت التوبة من مظالم العباد في مال أو عرض أو نفس ، فتزيد شرطا رابعا، هو: التحلل من صاحب الحق ، أو إعطاؤه حقه.
انظر لمعرفة حقيقة التوبة وشروطها السؤال رقم : (13990) ، والسؤال رقم: (182767) .
والندم شرط رئيسي أو هو ركن التوبة الأعظم ، ولهذا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) وصححه الألباني في “صحيح ابن ماجة” .
حتى قال بعض أهل العلم :
” يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ تَحَقُّقُ النَّدَمِ ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْلَاعَ عَن الذنوب ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ؛ فَهُمَا نَاشِئَانِ عَنِ النَّدَمِ لَا أَصْلَانِ مَعَهُ ” .
انظر: “فتح الباري” (13/ 471) .
وقال القاري رحمه الله:
” (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) إِذْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ مِنَ الْقَلْعِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَتَدَارُكِ الْحُقُوقِ مَا أَمْكَنَ…. وَالْمُرَادُ النَّدَامَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا غَيْرَ “.
انتهى من “مرقاة المفاتيح” (4/ 1637) .
ومعنى “الندم” هو الحزن ، أو شدة الحزن . كما في “لسان العرب” (1/79) ، (6/4386) .
فإنه فسَّر “الندم” بالأسف ، ثم فسَّر الأسف بالحزن أو المبالغة في الحزن .
وفي كلام القاري السابق فسَّر الندم بأنه “الندامة -أي : الحزن – على فعل المعصية من حيث إنها معصية لا غير” .
ومعنى هذا : أن كل من حزن لكونه فعل المعصية ، فقد حصل منه الندم المقصود في التوبة .
فإذا كان هذا الندم صادقا فإن العاصي سوف يترك المعصية ، ويعزم على عدم فعلها مرة أخرى ، وبهذا تكمل التوبة وتتحقق شروطها كلها .
وعلى هذا ؛ فكل من ترك المعصية لكونها معصية لله تعالى – أي خوفا من الله وطاعة له- وكره وقوعه فيها ، ومعصيته لرب العالمين ، وأحب أن لو كان قد أطاع الله ، بدلا من معصيته ، وعزم على عدم فعلها : فقد حصل منه الندم قطعا ، وهو الذي حمله على ترك المعصية .
قال الغزالي رحمه الله في “إحياء علوم الدين” (4/4) :
“اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم، وحال، وفعل.
فالعلم الأول ، والحال الثاني ، والفعل الثالث.
والأول موجب للثاني ، والثاني موجب للثالث ، إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك والملكوت.
أما العل م، فهو معرفة عظم ضرر الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب .
فإذا عرف ذلك معرفة محققة ، بيقين غالب على قلبه : ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه : تألَّم، فإن كان فواته بفعله ، تأسف على الفعل المُفَوِّت، فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندماً .
فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى ، انبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال .
أما تعلقه بالحال ، فبالترك للذنب الذي كان ملابساً .
وأما بالاستقبال ، فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر .
وأما بالماضي ، فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء ، إن كان قابلاً للجبر .
… فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول، فيطلق اسم التوبة على مجموعها .
وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم كالسابق والمقدمة ، والترك كالثمرة والتابع المتأخر، وبهذا الاعتبار قال عليه الصلاة والسلام: (الندم توبة) إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره ، وعن عزم يتبعه ويتلوه، فيكون الندم محفوفاً بطرفيه ، أعني ثمرته ومُثْمِره” انتهى .
وقال أيضا (3/144) :
“والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم ، والندم يورث العزم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)” انتهى .
وبهذا يتبين أن تركك للمعصية وعزمك على عدم العودة إليها دليل على حصول الندم في قلبك .
فدع عنك هذه الوساوس الشيطانية التي يريد الشيطان من ورائها أن يوهمك بأنك لم تتب ، أو أن التوبة مستحيلة ، أو أنك لن تقدر عليها ، فيوقعك ذلك في القنوط واليأس وتظن أن باب التوبة قد أغلق دونك .
نسأل الله تعالى أن يعيذنا جميعا من الشيطان الرجيم ، وأن يوفقنا للتوبة النصوح .
والله أعلم .