الحمد لله.
ولكن مع قدرة الله تعالى على
إفناء كل مخلوق، فإنه لن يفعل ذلك سبحانه ، فمن المخلوقات من خلقه الله للبقاء ،
كالعرش، والجنة والنار.
قال البربهاريّ رحمه الله في "شرح السنّة: "وكلّ شيء ممّا أوجب الله عليه الفناء
يفنى ، إلا الجنّة والنار، والعرش والكرسيّ ، واللوح والقلم والصور، ليس يفنى من
هذا أبداً، ثم يبعث الله الخلق على ما ماتوا عليه يوم القيامة فيحاسبهم بما شاء،
فريق في الجنة، وفريق في السعير، ويقول لسائر الخلق ممن لم يخلق للبقاء: كونوا
ترابًا" انتهى من " شرح السنة "، (ص77) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "عن حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء : النار وسكانها واللوح
والقلم والكرسي والعرش فهل هذا الحديث صحيح أم لا ؟
فأجاب : هذا الخبر ، بهذا اللفظ : ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو
من كلام بعض العلماء .
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة : على أن من المخلوقات ما لا
يعدم ولا يفنى بالكلية ، كالجنة والنار والعرش وغير ذلك .
ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين ، كالجهم بن صفوان
ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم ، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع
سلف الأمة وأئمتها" انتهى من "مجموع الفتاوى"(18/307).
ولهذا لا حاجة بك ـ يا عبد الله ـ إلى تصور شيء لن يقع، وشغل النفس بذلك، بل حسبك
الإيمان بقدرة الله تعالى على الإيجاد والإعدام، والكف عما وراء ذلك مما يجلب لك
الوسوسة.
واعلم أن خير علاج للوسوسة هو الاستعاذة بالله تعالى ، والانتهاء عنها، وعدم
الاسترسال معها، كما روى البخاري (3276) ، ومسلم (134) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا
حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ
وَلْيَنْتَهِ ).
وفي رواية لمسلم : ( لَا
يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ
فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ
بِاللَّهِ ).
وما دمت كارها لهذه الأفكار
التي تعتريك فإنك لا تكفر، بل كرهك لها يدل على إيمانك، والحمد لله ، وتؤجر على
مجاهدتها ومدافعتها.
روى مسلم (132) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي
أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : ( وَقَدْ
وَجَدْتُمُوهُ ؟ ) ، قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ: ( ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ ) ".
وروى مسلم (133) عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بن مسعود قَالَ : " سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الْوَسْوَسَةِ قَالَ : ( تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ ) ".
أي كراهتها واستعظام النطق بها .
قال النووي رحمه الله في "شرح
مسلم" (2/154): " أَمَّا مَعَانِي الْأَحَادِيث وَفِقْههَا فَقَوْله صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ذَلِكَ صَرِيح الْإِيمَان ، وَمَحْض الْإِيمَان ) مَعْنَاهُ
اِسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلَام بِهِ هُوَ صَرِيح الْإِيمَان ، فَإِنَّ اِسْتِعْظَام
هَذَا وَشِدَّة الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ ، فَضْلًا عَنْ اِعْتِقَاده ،
إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان اِسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا ،
وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك .
وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْر
الِاسْتِعْظَام ، فَهُوَ مُرَاد ، وَهِيَ مُخْتَصَرَة مِنْ الرِّوَايَة الْأُولَى ،
وَلِهَذَا قَدَّمَ مُسْلِم - رَحِمَهُ اللَّه - الرِّوَايَة الْأُولَى .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يُوَسْوِس لِمَنْ أَيِسَ مِنْ
إِغْوَائِهِ ، فَيُنَكِّد عَلَيْهِ بِالْوَسْوَسَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ إِغْوَائِهِ ،
وَأَمَّا الْكَافِر فَإِنَّهُ يَأْتِيه مِنْ حَيْثُ شَاءَ ، وَلَا يَقْتَصِر فِي
حَقّه عَلَى الْوَسْوَسَة ، بَلْ يَتَلَاعَب بِهِ كَيْف أَرَادَ . فَعَلَى هَذَا
مَعْنَى الْحَدِيث : سَبَب الْوَسْوَسَة مَحْض الْإِيمَان ، أَوْ الْوَسْوَسَة
عَلَامَة مَحْض الْإِيمَان . وَهَذَا الْقَوْل اِخْتِيَار الْقَاضِي عِيَاض " انتهى
.
والنصيحة لك : أن تراجع
طبيبا نفسيا مختصا ؛ فإن الوسواس القهري مرض كسائر الأمراض المعروفة ، وله علاجه
الطبي ـ الدوائي ـ وعلاجه المعرفي السلوكي ، بإشراف المختصين به .
ولا شك أن الجمع بين العلاجين ، الإيماني والطبي ، هو أنجع لدوائك ، وأشفى لك ،
بإذن الله رب العالمين .
والله أعلم.