بعدما نطقت الشهادتين قال لي أحد الأشخاص : أن أصلي الصلوات الخمس ، ولا يجوز لي أضاعتها إطلاقا ، وقال : إن الإسلام يبيح لي أن أجمع الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء إذا لم أستطع أداء كل صلاة في وقتها ، وأن أصلي وأنا قاعدة إن خفت أن أصلي قائمة ، وإذا لم أستطع فيمكنني الذهاب للحمام وأصلي فيه عند الضرورة ، وكنت أفعل هذا في المنزل أو العمل ، وبطبيعة الحال لم أكن أستطيع الصلاة بزي شرعي في المنزل والعمل ، وكلما سمحت الظروف كنت أذهب الي المسجد وأصلي هناك، وكذلك الحال إذا كنت في المنزل لوحدي فأرتدي الحجاب وأصلي في حجرتي . ومنذ يومين قالت لي إحدى صديقاتي : إن هذا لا يجوز ، وأن صلاتي باطلة لن يقبلها الله ، ولابد أن أصلي بالحجاب وخارج الحمام مهما كانت الظروف ، وأنا الآن أبكي ، ولا أعلم ماذا أفعل ؛ لأني لو فعلت ما تقول صديقتي سيعرف أمر إسلامي وسأتعرض للأذى الذي لا يعلم مداه إلا الله ، فهل كلامها صحيح أم لا ؟ وماذا أفعل ؟
الحمد لله.
أولا :
نحمد الله تعالى أن يسرك للإسلام ، وهداك لهذه النعمة العظيمة والهبة الجليلة ، فاختارك من بين كثير من الناس ، فاحمدي الله على ذلك .
وليس هناك نعمة تضاهي هذه النعمة التي أكرمك الله تعالى بها، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعقدون المجالس يذكرون نعمة الله عليهم بهدايتهم للإسلام ، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يباهي بمجلسهم الملائكة .
فعن معاوية رضي الله عنه قال: " خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ ، قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ الله ، وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا للإسْلاَمِ ؛ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلا ذَاكَ؟ ، قالوا : واللهِ مَا أجْلَسَنَا إِلا ذَاكَ ، قَالَ : أمَا إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ ، ولكِنَّهُ أتَانِي جِبرِيلُ فَأخْبَرَنِي أنَّ الله يُبَاهِي بِكُمُ المَلاَئِكَةَ رواه مسلم (2701) .
ورأت أخت بِشْر بن الحارث أخاها ليلة من الليالي يتفكر فتركته ، فلما أصبح قالت له : في ماذا تفكرت طول الليلة ؟ ، فقال: تفكرت في " بِشْرٍ " النصراني ، و "بشرٍ" اليهودي ، و"بشرٍ" المجوسي ، ونفسي واسمي : بِشْر !!
فقلت : ما الذي سبق منك حتى خصك ؟!
فتفكرت في تفضله عليّ ، وحمدته على أن جعلني من خاصته ، وألبسني لباس أحبائه .
ينظر كتاب " صفة الصفوة " (2/331) .
فالحمد لله الذي نجاك من الشرك به ، وعبادة من سواه ، إلى عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ؛ قال الله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا الإسراء/111 .
فالله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا .
ثانيا :
لا شك أن صديقتك أخطأت خطأ كبيرا في جزمها ببطلان صلاتك ، وعدم مراعاة حالك ، أو حال غيرك من أهل الأعذار ، وتصديها للفتوى في شيء لا تعلمه .
والذي عليك أن تعلميه الآن ـ يا أمة الله ـ أن أمامنا حالين :
الحال الأولى :
حال تمكن الإنسان ، وسعة أمره : فهذا يجب عليه أن يأتي بالصلاة ، وغيرها من العبادات الشرعية ، على وجهها ، فيأتي بالصلوات الخمس في مواقيتها الشرعية ، ولا يخرج شيئا منها عن وقته ، ويأتي بشروط الصلاة كاملة ، من طهارة الثوب والبدن والمكان ، ويستقبل القبلة ، ويلبس الملابس الشرعية ... إلى آخر ما تعلمينه ، أو ما يلزمك أن تتعلميه من أمر صلاتك ، وصيامك ، ودينك كله .
الحال الثانية :
حال أهل الأعذار ، فهؤلاء يرخص لهم ، ويسهل عليهم ، ما لا يسهل على من لا عذر له .
فمن عجز عن الطهارة بالماء ، إما لمرضه ، أو لعجزه عن استعمال المال ... ؛ فإنه يتيمم ويصلي .
ومن عجز عن الصلاة قائما ، صلى قاعدا .
ومن عجز عن الصوم في رمضان ، أفطر اليوم الذي يعجز فيه ، وقضاه بعد رمضان .
وهكذا الحال في جميع الأحكام التكليفية العملية ؛ فمتى دخل العبد في الإسلام ، وآمن بالله ربا ، وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، والتزم شرع الله ورسوله ، واستسلم له في أمره كله : فإنه يؤمر بأن يأتي ما يمكنه الإتيان به ، ويعذر فيما عجز عنه .
وهذا أصل مقرر في دين الإسلام ، لا اختلاف عليه من حيث أصله ، والأدلة عليه من كتاب الله ، وسنة رسوله : كثيرة ، متواترة .
قال الله تعالى ، بعد أن أمرهم بالطهارة بالماء ، ورخص للعاجز في التيمم : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة/6 .
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ الحج/77-78.
والحرج : هو الضيق ، والشِّدة .
وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن/16.
وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ البقرة/185.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ) رواه البخاري (39) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا رواه البخاري (69) ، ومسلم (1732) .
وحينئذ ، نقول في جوابك عن سؤالك :
إنك متى كنت في حال من السعة والاختيار ، آمنة على نفسك : فالواجب عليك أن تصلي الصلوات في وقتها ، وتصلينها ـ أيضا ـ بشروطها ، وأركانها ، وواجباتها ، فتتطهرين ، وتلبسين الحجاب الشرعي ، وتصلين في مكان طاهر ، يصلح للصلاة ، وتصلين الصلاة في وقتها ، وتأتين بركوعها ، وسجودها .
وأما إذا كنت في حال العذر ، والضيق ، والخوف على نفسك ، كما تذكرين من حالك ، وكما هو معلوم من حال مثيلاتك ، ممن يشاركنك في ظروفك : فالواجب عليك أن تتقي الله قدر استطاعتك .
فإذا لم يكن أمامك مكان يمكنك أن تصلي فيه ، سوى الحمام : فلا حرج عليك أن تصلي فيه .
وإذا لم تتمكني من لبس الحجاب الشرعي : فصلي في أحسن ملابسك ، وأقربها للستر ، واستري ما تستطعين من بدنك ، مما لا يلفت النظر إليك ، ولا يعرضك للتهمة ، وانكشاف أمرك .
وإذا لم تتمكني من أداء الصلوات الخمس في مواقيتها ، فصلي الفجر أولا ، حينما يكون من في البيت نائمين ، ثم صلي الظهر مع العصر ، إما في وقت الظهر ، وإما في وقت العصر ، بحسب ما تسمح به ظروفك . وصلي المغرب مع العشاء ، على هذا النحو أيضا .
فإن عجزت عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة ، وفاتك شيء منها ، فمتى تمكنت ، وأمنت على نفسك : فصلي ما فاتك .
وملخص أمرك ، يا أمة الله :
أن عندنا أصلا شرعيا عاما ، دلت عليها النصوص السابقة ، وغيرها كثير ، وهو أن الله لا يكلف عباده بما لا يستطيعون ، كما قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا البقرة/286 ؛ فمتى أمر الله عباده بشيء ، وجب عليهم امتثاله ، كما أمر .
فإن عجزوا عن بعضه ، سقط عنهم ما عجزوا عنه ، وبقي عليهم أن يتقوا الله قدر استطاعتهم ، وينفذوا ما في إمكانهم أن ينفذوه من أمره .
وقد قال نبي الله صلى الله عليه وسلم :
مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ .
روه البخاري (7288) ، ومسلم (1337) .
وراجعي للأهمية جواب السؤال رقم: (220401) .
وبقدر فرحنا بنعمة الله عليك ، وألمنا لحالك ، فإن ما يمكننا مساعدتك به الآن : أن نرحب بأي سؤال لك ، عما تحتاجين إلى معرفته من أمر دينك ؛ فلا تترددي في مراسلتنا .
يسر الله لك أمرك ، وشرح صدرك للعلم والإيمان ، وآمنك مما تخافين ، وجعل لك فرجا ومخرجا.
والله أعلم .