الحمد لله.
والآية تحتمل القولين.
قال ابن كثير رحمه الله: " قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا هشام بن
عروة، عن أبيه عن عائشة، رضي الله عنها؛ أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟
فأنزل الله عز وجل: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا
جناح عليك) قالت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة، عن هشام بن عروة، فدل هذا على أن
المراد بقوله: (ترجي) أي: تؤخر (من تشاء منهن) أي: من الواهبات [أنفسهن] (وتؤوي
إليك من تشاء) أي: من شئت قبلتها، ومن شئت رددتها، ومن رددتها فأنت فيها أيضا
بالخيار بعد ذلك، إن شئت عدت فيها فآويتها؛ ولهذا قال: (ومن ابتغيت ممن عزلت فلا
جناح عليك) . قال عامر الشعبي في قوله: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) :
كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن، وأرجأ بعضهن لم ينكحن
بعده، منهن أم شريك.
وقال آخرون: بل المراد بقوله: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) أي: من
أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القسْم لهن، فتقدِّم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من
شئت، وتترك من شئت.
هكذا يروى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رزين، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، وغيرهم .
ومع هذا كان، صلوات الله وسلامه عليه، يقسم لهن؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من
الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه، صلوات الله وسلامه عليه، واحتجوا
بهذه الآية الكريمة.
وقال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، حدثنا عبد الله -هو ابن المبارك -أخبرنا عاصم
الأحول، عن معاذة عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم
المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن
ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) ، فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن
كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا .
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم، وحديثها الأول يقتضي أن
الآية نزلت في الواهبات .
ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده، أنه
مخير فيهن، إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم. وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي، وفيه جمع
بين الأحاديث؛ ولهذا قال تعالى: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما
آتيتهن كلهن) أي: إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن
شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك ،
لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك
عليهن في قسمك لهن، وتسويتك بينهن ، وإنصافك لهن ، وعدلك فيهن" انتهى من "تفسير ابن
كثير" (6/445).
والله تعالى له أن يشرع ما
يشاء، وأن يخص نبيه بما شاء، وقد كان شرفا للمرأة –وأي شرف- أن تكون زوجة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، فلو أنه أخذ بالرخصة ولم يقسم، لما ضرها ذلك. والله عليم
بعباده وما يصلحهم.
وقد رضيت زوجاته صلى الله عليه وسلم وقرت أعينهن بحكم الله تعالى، وقسم رسوله صلى
الله عليه وسلم، ولله الحمد.
قال القرطبي رحمه الله: " قوله تعالى : (ذلك أدنى أن تقر أعينهن) قال قتادة وغيره :
أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا؛ لأنهن إذا
علمن أن الفعل من الله ، قرت أعينهن بذلك ورضين، لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في
شيء ، كان راضيا بما أوتي منه وإن قل. وإن علم أن له حقا ، لم يقنعه ما أوتي منه
واشتدت غيرته عليه، وعظم حرصه فيه، فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في
أحوال أزواجه ، أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن ، دون أن
تتعلق قلوبهن بأكثر منه ...
وكان عليه السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن
كما قدمناه، ويقول: (اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )
يعني قلبه ، لإيثاره عائشة رضي الله عنها، دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله"
انتهى من "تفسير القرطبي "(14/215).
وقد أحسنت بسؤالك عما يحيك
في نفسك، فإنه لا حرج في مثل هذا السؤال، وليكن المؤمن على يقين بأن الله تعالى عدل
عليم حكيم رؤوف رحيم، لا يشرع إلا ما فيه حكمة ورحمة، وإن كانت الحكمة قد تخفى على
بعض الناس، مع أن الآية نصت على الحكمة من هذا التخيير.
قال السعدي رحمه الله : " ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ
تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى
أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ
كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَلِيمًا ) :
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته،
على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك، فهو تبرع منه، ومع ذلك، فقد كان صلى اللّه عليه
وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول : "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا
تلمني فيما لا أملك" .
فقال هنا: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) [أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا
تؤويها إليك، ولا تبيت عندها] (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي: تضمها وتبيت
عندها.
ومع ذلك لا يتعين هذا الأمر (مَنِ ابْتَغَيْتَ) أي: أن تؤويها (فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكَ) والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله .
وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات، له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء،
أي: إن شاء قبل من وهبت نفسها له، وإن شاء لم يقبلها، واللّه أعلم .
ثم بين الحكمة في ذلك فقال: (ذَلِكَ) أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك
وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك (أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا
يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) لعلمهن أنك لم تترك واجبًا،
ولم تفرط في حق لازم.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة
والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن
قلوب زوجاتك.
(وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع
لكم ما هو أصلح لأموركم، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما
أصرت عليه قلوبكم من الشر.
(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) .
وهذا شكر من اللّه، الذي لم يزل شكورًا، لزوجات رسوله، رضي اللّه عنهن، حيث اخترن
اللّه ورسوله، والدار الآخرة، أن رحمهن، وقصر رسوله عليهن فقال: (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) زوجاتك الموجودات (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ) أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها.
فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا
والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة" انتهى من "تفسير السعدي"، 669
زادنا الله وإياك علما وهدى.
والله أعلم.