الحمد لله.
المصطلحات الشرعية نوعان:
الأول: ما جاء مبينا معناه من قبل الشارع ، كالإسلام والإيمان والإحسان، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك.
والثاني: ما لم يحدّه الشارع، فيرجع فيه إلى العرف، وذلك كالحِرز، والقبض، والسفر، ونحو ذلك.
وهذا يختلف باختلاف الأعراف، فما عده الناس حِرزا للمال في بلد، قد لا يعدونه حرزا في بلد آخر، وما يعد سفرا يختلف أيضا باختلاف الناس، وهكذا، ولعل هذا النوع هو مراد السائل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومما ينبغي أن يُعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم .
ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:
نوع يعرف حده بالشرع؛ كالصلاة والزكاة.
ونوع يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر.
ونوع يعرف حده بالعرف ، كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] ، ونحو ذلك" انتهى ، من كتاب الإيمان، ص224 .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في منظومته:
" وكلُّ ما أَتَى ولم يُحَدَّدِ *** بالشرعِ كالحرزِ فبالعرفِ احْدُدِ".
وشرحه بقوله:
" هذه من القواعد المهمة ؛ وهي أن ما جاء في الكتاب والسنّة مطلقاً ، بغير تحديد بزمن ، أو مكان، أو عدد ، أو صفة ، فإنه يرجع في تحديده إلى العرف ، لأن المطلق يحمل على ما يتعارفه المخاطبون بينهم .
وليُعلم أن الألفاظ إذا أطلقت فلا تخلو من إحدى حالات ثلاث :
1 ـ إما أن يكون النص قد بَيَّن أن المرجع في ذلك إلى العرف، فهنا نرجع للعرف .
2 ـ وإما أن يكون النص قد بَيَّن أن المرجع في ذلك إلى الشرع، فهنا نرجع إلى الشرع .
3 ـ وإما أن لا نعلم هذا ولا هذا، فيرجع إلى العرف .
بيان ذلك :
1 ـ ما أحيل فيه على العرف مثل : جميع حقوق الزوجة يرجع فيها إلى العرف بنص الشرع ، قال تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] ، وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] ؛ فهذا واضح أنه أحيل فيه على العرف فيؤخذ به.
2 ـ ما أحيل فيه على الشرع: فيرجع فيه إلى الشرع وَيُلْغَى العرف.
مثال هذا: لو كان من عادة الناس أن الإنسان إذا باع عبده واشترط أن الولاء له وافقوا على ذلك، فهنا لا نرجع إلى العرف بل: هذا مرجعه إلى الشرع. ولهذا أبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الشرط وقال : قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنَّما الولاء لمن أعتق .
ومثل ذلك : المواريث ، فالزوجة لها نصيب ، والأم لها نصيب ، والأب له نصيب ، وهذا محدد بالشرع .
3 ـ ما لم يقيد بالشرع ولا بالعرف : فهذا يرجع فيه إلى العرف .
مثاله : الحِرْز في السرقة ، ذكر العلماء - رحمهم الله - أنَّ يد السارق لا تقطع إلا إذا سرق من حرز.
والحرز : هو كل ما تحفظ به الأموال ، وهو يختلف باختلاف السلطان والمكان والزمان وأنواع المال ، وغير ذلك ، فحرز الذهب والفضة ليس كحرز المواشي ، فالذهب والفضة يحرزان بالصناديق المغلقة وراء الأبواب ، والغنم بالحظائر ، وَفَرَّقَ بينهما العرف .
_ رجل أعطاك دراهم على أنها وديعة ، فذهبت إلى حظيرة الغنم فألقيت الدراهم في مكان الغنم ، وجاء السارق فسرقها ، فإنك تضمن ؛ لأن هذا ليس بحرز ؛ لكن لو وضعتها في صندوق ، وأغلقت عليها ، ثم جاء السارق وكسر الصندوق وأخذها ، فلا ضمان عليك لأن هذا حرز في العادة .
ـ كذلك السفر: جاء مطلقاً في القرآن والسنة ولم يحدد؛ قال الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ [النساء: 101] . فأطلق الضرب ولم يحدده لا بزمان ولا بمسافة، فيرجع فيه إلى العرف، وما ورد عن بعض السلف ، من أنه مِنْ مكانِ كذا وكذا سفرُ قصرٍ ، يعني وما دونه فليس سفرَ قصرٍ، فإنما هو من باب المثال لِمَا كان سفراً في عرفهم، ولهذا لم يحدد النبي صلّى الله عليه وسلّم زمناً ولا مسافة في سفر القصر، بل قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - : ( كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - إذا خرج ثلاثة أميال صلى ركعتين).
فيرجع في ذلك إلى العرف ، فما سماه الناس سفراً فهو سفر ، وما ليس سفراً في عرف الناس فليس بسفر .
وكذلك الإقامة أثناء السفر في بلد أو مكان بَرِّي : لم يحددها الشرع بأيام معلومة ، أو أشهر معلومة ، أو سنوات معلومة ، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقيم إقامات متعددة مختلفة ، ويقصر فيها الصلاة ، فقد أقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، وأقام في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ، وذلك في غزوة الفتح ، وأقام في مكة في آخر سفر سافره في حجة الوداع ، عشرة أيام كما ثبت ذلك في صحيح البخاري رحمه الله ( لما سئل أنس بن مالك رضي الله عنه : كم أقام النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - ) لأنه قدم في يوم الأحد ، الرابع من شهر ذي الحجة ، وسافر من مكة في صبيحة اليوم الرابع عشر ، فهذه عشرة أيام يقصر فيها الصلاة ، ولم يقل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : مَنْ أقام كذا لزمه القصر ، ومن أقام دون ذلك لم يقصر، فدل ذلك على أنه ما دام الإنسان لم يَعُدْ إلى بلده ، فهو مسافر.
ومن ذلك أيضاً الخُفان : وردت السنة : أنَّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - مسح على الخفين ولم يشترط النبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - في الخفين شرطاً معيناً ، إلا أنَّهُ لبسهما طاهرتين ، وأن مسحهما في مدة معينة، ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، ويوم وليلة للمقيم ، فإذاً نقول : يمسح على كل ما يسمى خفاً عرفاً ، وهذا هو القول الراجح ، وأننا لا نشترط شروطاً في جواز مسح الخفين لم تثبت في الكتاب ولا في السنة ، لأننا إذا شرطنا شروطاً ضيقنا نطاق المسح ، وليس لأحد تضييق ما وَسَّعه الله .
ومن أمثلة ما أحيل فيه على العرف : النفقة ، يقول الله عزّ وجل: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق: 7] وأطلق الإنفاق ، فيرجع في ذلك للعرف ، فما تعارف عليه الناس من نفقة الغني وجب على الزوج الغني ، وما تعارفوا عليه من نفقة الفقير وجب عليه .
كذلك المعاشرة : قال الله - عزّ وجل - : وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء : 19] ولم يحدد شيئاً معيناً ، بل جعل ذلك إلى العرف .
وهذه قاعدة نافعة تنفع في أبواب كثيرة في الفقه : أن كل شيء أتى في النص ، من كتاب الله وسنة رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - ولم يحدد ، فإنه يرجع فيه إلى العرف .
وما سبق من الحالات الثلاث إنَّما هو في باب المعاملات ، وأما في باب العبادات فَعَرفنا من قبل أنه لا يمكن أن يعمل الإنسان عبادة إلا بإذن الشارع . " .
انتهى من "منظومة في أصول الفقه وقواعده" للشيخ ابن عثيمين، ص273- 276
والله أعلم.