الحمد لله.
أولا :
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته خديجة رضي الله عنها ووفاءه لها لا يخفى ، حتى أنه قال عنها صلى الله عليه وسلم :" ( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ) رواه مسلم (2534) .
ومن كثرة ما كان يذكرها قالت عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا ) رواه البخاري (3817) .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:
اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ ؛ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ !!
فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ.
رواه البخاري (3821) ومسلم (2437) .
وقولها : (ارتاع): أي عظُم في نفسه سماع صوتها ، واجتمع له ، واستعد للقائها وتنبه..
ينظر : "مطالع الأنوار" لابن قرقول (3/200) .
وفي لفظ مسلم : (فَارْتَاحَ لِذَلِكَ) .
"أَيْ : هَشَّ لِمَجِيئِهَا ، وَسُرَّ بِهَا ، لِتَذَكُّرِهِ بِهَا خَدِيجَةَ وَأَيَّامَهَا" ، كما قاله النووي في "شرحه" .
وهذا من مكارم الأخلاق ، وحفظ العهد ، ورعاية الحبيب ، ومن والاه .
صلى الله على نبينا محمد ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته ، وآل بيته .
ثانيا :
أما الحديث الذي سأل عنه السائل الكريم فليس له إسناد أصلا ، بل لا يعرف إلا على ألسنة بعض الدعاة المعاصرين .
وأغلب الظن أن من نسبه للنبي صلى الله عليه وسلم أخذه من السيرة النبوية تكلفا وفهما منه لما حدث في فتح مكة حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء مكة فاتحا ، أمر أن تُركز رايته بالحجون ، كما في صحيح البخاري (4280) من طريق عروة بن الزبير وفيه : ( وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالحَجُونِ ) . انتهى .
وقد نصبت خيمته بها كما في "سيرة ابن هشام" (2/407) و"مغازي الواقدي" (2/829) .
والحجون كما قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/221) :" بِفَتْح الْحَاء وَضم الْجِيم وتخفيفها : الْجَبَل المشرف حذاء مَسْجِد الْعقبَة ، عِنْد المُحَصَّب .
قَالَ الزبير : الْحجُون مَقْبرَة أهل مَكَّة ، تجاه دَار أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ".
قال الحلبي في "السيرة الحلبية" (1/92) :" وفي كلام بعضهم: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ضرب مخيمه بالحجون .
فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشِّعْب ؟
فقال وهل ترك لنا عقيل منزلا ". انتهى .
ومعلوم عند أهل السير أن خديجة رضي الله عنها دفنت بالحجون أيضا .
ذكر ذلك ابن إسحاق كما في "المستدرك للحاكم" (4837) ، والمؤرخون كالطبري في "تاريخه" (11/493) والذهبي في "تاريخ الإسلام" (1/152) .
فلعل هذا هو الذي جعل البعض يربط بين نصب خيمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحجون ، أنه كان لأجل قبر خديجة رضي الله عنه .
وهذا غلط ، لا أصل له .
ويدل على ذلك أمور :
الأول : أنه لم يرد قط في حديث بإسناد صحيح أو ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم أمر بنصب خيمته بالحجون لأجل قبر خديجة ، وهذا أمر لا يعرف إلا بالتصريح ، لا بالظن والتخمين والتكلف .
الثاني : أن منطقة الحجون لم يكن فيها قبر خديجة فحسب ، بل فيها مدفن لأهل مكة حيث كانوا يدفنون فيها موتاهم كما في "أخبار مكة" للفاكهي (4/33) ، ولم تكن قبرا خاصا لخديجة رضي الله عنها ، ولم يكن لقبرها تميز عن سائر القبور .
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح عن موضع نزوله واصفا إياه بوصف بعيد عن كونه قبر خديجة رضي الله عنها .
وهو ما أخرجه البخاري في صحيحه (1589) ومسلم في صحيحه (1314) من حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: ( مَنْزِلُنَا غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ ) .
ولذا قال الحلبي في "السيرة الحلبية" (3/122) :" ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس ، قال وذلك بالحجون: موضع ما غرز الزبير رضي الله تعالى عنه رايته صلى الله عليه وسلم عند شعب أبي طالب الذي حصرت فيه بنو هاشم ، أي وبنو المطلب قبل الهجرة ، بقُبَّة من أَدَم ، نُصِبت له هناك ، ومعه صلى الله عليه وسلم فيها أم سلمة وميمونة ، زوجتاه صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهما ". انتهى .
والذي ينبغي أن يقال لمن نصح نفسه ، وأراد الخير والهدى : أن يتثبت في الشيء يقال ، قبل أن ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولسنا في حاجة إلى ما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح الثابت غنية وكفاية ، والحمد لله رب العالمين .
والله أعلم .