الحمد لله.
أولا:
من عقيدة الإسلام؛ أنّ دخول الجنة هو فضل من الله الكريم.
عن أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ.
قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ ... ) رواه البخاري (5673) ومسلم (2816).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة، فليس عمل العبد ، وإن تناهى ، موجبا بمجرده لدخول الجنة، ولا عوضا لها، فإن إعماله ، وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه : فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا ، ولا تعادلها ؛ بل لو حاسبه : لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له، ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله؛ كما في السنن من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما مرفوعا الى النبي انه قال: ( إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل ارضه : لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ) " انتهى، من "مفتاح دار السعادة" (1 / 21 - 22).
وقال النووي رحمه الله تعالى:
" الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة لا تعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال ، ثم التوفيق للأعمال ، والهداية للإخلاص فيها، وقبولها : برحمة الله تعالى وفضله ؛ فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل ، وهو مراد الأحاديث .
ويصح أنه دخل بالأعمال ؛ أي : بسببها ؛ وهي من الرحمة. والله أعلم " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (17 / 161).
ثانيا:
وأهل الجنة يشعرون بهذا ، ويعلمون أنّ كل ما هم فيه من النعيم ، إنما هو محض فضل الله تعالى، فلهذا ينسبون ما هم فيه من النعم إلى الله تعالى وحده.
قال الله تعالى:
( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) فاطر (32 - 35).
وقال الله تعالى:
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يونس (9 - 10).
والاعتراف بفضل الله تعالى ، وإرجاع النعم إليه، لا يجتمع مع الافتخار والتعاظم في النفس.
كما أن الافتخار والتعاظم من آفات النفوس التي يطهر الله قلوب أهل النار منها ، ويصلحها لمجاورته في دار السلام . قال الله تعالى:
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الأعراف (42 - 43).
وقال الله تعالى:
( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ، لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) الحجر (45 - 48).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لاَ تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَحَاسُدَ ...) رواه البخاري (3254).
وروى مسلم في صحيحه (91) من حديث عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) .
فإذا كان الكبر قاطعا عن الوصول إلى جنات النعيم ، لا يدخل صاحبه الجنة ، وهو في قلبه ، حتى يطهر منه ؛ فكيف يكون حاله في الجنة مورثا لذلك الداء الوبيل ؟!
والله أعلم.