عندي استشكال عن العرضة الأخيرة للقرآن الكريم ، فإذا كان جبريل عليه السلام عارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فكيف يكون آخر ما نزل من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) نزل تسع أو في بعض الرويات سبع أو ثلاث أيام قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد توفي في ربيع الأول ، وكانت المعارضة والمدارسة في رمضان؟ فهل عارضه القرآن كاملا كما نعرفه الآن؟ فإن كان كذلك فكيف نوافق بين هذا وذاك ؟
الحمد لله.
أولًا:
العرضة من العرض، والمقصود بها: مدارسة جبريل القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم كل عام في رمضان .
عن عائشة : " أن فاطمة رضي الله عنهما قالت: أخبرنى [أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] ( فَأَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الْآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنِّي لَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ) رواه مسلم(2450).
وفي رواية البخاري (3624) ( إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي ، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي) فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: ( أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ) فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ ".
وقد شهد هذه العرضة من الصحابة، عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت.
قال ابن كثير: " والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقي ما بقي، ويذهب ما نسخ ، توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره، عليه السلام، على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم، عليه السلام، اقتراب أجله .
وعثمان، رضي الله عنه ، جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة .
وخص بذلك رمضان من بين الشهور؛ لأن ابتداء الإيحاء كان فيه؛ ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه، ومن ثم اجتهاد الأئمة فيه في تلاوة القرآن" انتهى من " تفسير ابن كثير"(1/ 51).
ثانيًا:
لا إشكال في أن العرض في كل سنة : لم يكن للقرآن كله ، لأن القرآن لم يكن قد استكمل نزوله بعد ، وهذا واضح .
وهذا أيضا هو ما حدث في العرضة الأخيرة في رمضان ؛ أن العرضة إنما حدثت لما كان نزل إلى هذا الوقت ؛ ولا يمنع ذلك أن يكون قد نزل بعد رمضان ، أو بعد العرضة شيء من القرآن ، لم تشمله هذه العرضة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور .
وكان في سنة عشر إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم فإنها نزلت يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم بها بالاتفاق ...
وكأن الذي نزل في تلك الأيام ، لما كان قليلًا بالنسبة لما تقدم ، اغتفر أمر معارضته" انتهى من "فتح الباري"(9/ 44).
ولمزيد حول مسألة العرضة الأخيرة، انظر: العرضة الأخيرة .. دلالاتها وأثرها، د. ناصر القثامي، كرسي القرآن وعلومه .
والله أعلم