قرأت أن الطلاق في الحيض يُعتدُّ به لدليل هو الرواية في البخاري ومسلم أنّ ابن عمر طلق زوجته في الحيض خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أن العالم كتب بأن هنال روايةٌ في البخاري تفيدُ بأن ذلك يعتبر طلاقاً شرعيّاً ، ثم راجعها هذا يعني أنه كان هناك فصلٌ ومن ثمّ طلاق. ابن تيمية، ابن القيم وبعض العلماء يقولون : لا يعتبر الطلاق في الحيض شرعياً، على أساس بعض الروايات الأخرى التي تقول؛ لم يعدّها (طلقة) بأيّ حال (أحمد وأبو داود)، ورأي الأغلبية أن الطلاق صحيحٌ في الغالب لأن: أ) هناك وفرةٌ من الروايات التي تثبت صحة مثل هذا الطلاق. ب) الروايات التي تثبت صحة هذا الطلاق أقوى من الرواية الأخرى التي تقترح العكس . فتواكم رقم 20153 تقول: يتفق العلماء على أن البخاري ومسلم هما الأكثر صحةً من الكتب بعد القرآن . الرواية في البخاري وأبو داود عكس ذلك ولكن كلاهما لا يمكن أن يكون على صواب ، وأنتم تقولون بعدم وقوع هذا الطلاق ، قلتم في الفتوى : (72417) ، وأن هذه هي الفترة المحددة التي أمر الله فيها الرجال بالطلاق ، ولا يجوز للرجل أن يطلق زوجته إلا في فترة محدّدة ، عندما تكون في الطهر (وليس في الحيض). 1) ماذا تعنيراجعها في البخاري أو في روايةٍ أخرى ؟ 2) هل تعتبر الرواية في أبو داود أو غيره أقوى من الرواية في البخاري الذي يقول بأنه عدّها طلقةً شرعيةً واحدة ؟
الحمد لله.
أولا:
الطلاق في الحيض مختلف في وقوعه، فذهب جمهور أهل العلم ، ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم: إلى وقوعه.
وذهب جماعة من العلماء إلى عدم وقوعه، وهو قول طاوس، وخلاس بن عمرو، وابن علية، وهشام بن الحكم، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني، وأحمد شاكر، وابن باز، وابن عثيمين، وغيرهم.
والمسألة من المسائل الكبيرة التي تنوعت فيها الأدلة من الطرفين، لا سيما أن ابن عمر الذي طلق امرأته وهي حائض ، جاء عنه القول- في أكثر الروايات- باحتسابها تطليقة، وجاء عنه القول أيضا بعدم احتسابها.
وقد روى أبو داود (2185) عن أبي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، مَوْلَى عُرْوَةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ، قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: (إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ)، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) [الطلاق: 1] فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ.
والحديث صححه ابن حزم وابن القيم وابن حجر والألباني.
ولم ينفرد أبو الزبير بذلك، فقد رواه عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن نافع: أن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال ابن عمر: لا يعتد بذلك. أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني عن بندار عنه ، وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر.
وقال الشوكاني: ويؤيد رواية أبي الزبير ما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليس ذلك بشيء).
وقد جاء عن ابن عمر أنها حُسبت تطليقة، كما روى البخاري (5253) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ) .
وروى مسلم (1471) عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا، قَالَ: فَرَاجَعْتُهَا، ثُمَّ طَلَّقْتُهَا لِطُهْرِهَا، قُلْتُ: فَاعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقْتَ وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ.
وفي رواية له: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَفَاحْتَسَبْتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: فَمَهْ.
وأجاب القائلون بعدم وقوع الطلاق بأن ابن عمر لم يبين هنا من الذي حسبها عليه، والظاهر أنه حسبها على نفسه، اجتهادا منه.
قال ابن القيم رحمه الله في حاشيته على تهذيب السنن: " قالوا: وأما قولكم إن نافعا أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص ؛ فروايته أولى أن نأخذ بها ؟
فهذا إنما يحتاج إليه عند التعارض، فكيف ولا تعارض بينهما، فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تحسب عليه. وأما نافع فرواياته ليس فيها شيء صريح قط ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حسبها عليه بل مرة قال: (فمه) أي فما يكون؟ وهذا ليس بإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حسبها، ومرة قال: (أرأيت إن عجز واستحمق) وهذا رأي محض، ومعناه أنه ركب خطة عجز واستحمق ، أي ركب أحموقة وجهالة ، فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه .
ومعلوم أنه لو كان عند ابن عمر أنه حسبها عليه لم يحتج أن يقول للسائل: (أرأيت إن عجز واستحمق) ، فإن هذا ليس بدليل على وقوع الطلاق، فإن من عجز واستحمق يُرد إلى العلم والسنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يظن بابن عمر أنه يكتم نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بتلك الطلقة، ثم يحتج بقوله: (أرأيت إن عجز واستحمق) ، وقد سأله مرة رجل عن شيء فأجابه بالنص، فقال السائل: أرأيت إن كان كذا وكذا، قال: اجعل أرأيت باليمن.
ومرة قال: (تُحسب من طلاقها) وهذا قول نافع، ليس قول ابن عمر ، كذلك جاء مصرحا به في هذا الحديث في الصحيحين، قال عبد الله لنافع: ما فعلت التطليقة؟ قال: (واحدة اعتد بها)، وفي بعض ألفاظه: (فحسبت تطليقة)، وفي لفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر: (فحسبت علي بتطليقة) ، ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه، وخالف نافع وأنس بن سيرين ويونس بن جبير وسائر الرواة عن ابن عمر فلم يذكروا: (فحسبت علي) ، وانفراد ابن جبير بها كانفراد أبي الزبير بقوله: (ولم يرها شيئا) فإن تساقطت الروايتان ، لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع، وإن رُجح إحداهما على الأخرى فرواية أبي الزبير صريحة في الرفع، ورواية سعيد بن جبير غير صريحة في الرفع؛ فإنه لم يذكر فاعل الحساب، فلعل أباه رضي الله عنه حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث ، وحسبه عليهم اجتهادا منه ، ومصلحة رآها للأمة ، لئلا يتتابعوا في الطلاق المحرم، فإذا علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم، أمسكوا عنه، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا في لفظ واحد، فلما رأى عمر الناس قد أكثروا منه رأى إلزامهم به ، والاحتساب عليهم به.
قالوا: وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في هذا الباب ، ويتبين وجهها ، ويزول عنها التناقض والاضطراب ، ويستغنى عن تكلف التأويلات المستكرهة لها ، ويتبين موافقتها لقواعد الشرع وأصوله" انتهى من حاشية ابن القيم-مع عون المعبود- (6/ 171).
ويتبين بهذا وجه رجحان رواية أبي داود ، على رواية البخاري ومسلم ، عند من لم يحتسب الطلاق في الحيض شيئا ؛ أن ذلك من جهة التصريح في رواية أبي بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والاحتمال الذي في رواية الصحيحين .
وينظر للتوسع في هذه المسألة ومناقشة أدلة الفريقين: بحث "الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض" للدكتور سليمان بن فهد بن عيسى العيسى، منشور على موقع المسلم:
http://almoslim.net/node/83864
ثانيا:
من أسباب الخلاف في هذه المسالة الخلاف في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) فالجمهور على أن المراد بذلك الرجعة الاصطلاحية، والتي لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق.
وأما من لم يوقع الطلاق على الحائض فإنه يقول إن المراد بالرجعة هنا الرجعة اللغوية، وهي رد المرأة إلى الحالة التي كانت عليها، وأيدوا ذلك برواية أبي داود السابقة وفيها: (فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا)، وبما روى النسائي (3398) عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ (طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى طَلَّقَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ) وصححه الألباني في صحيح النسائي.
قال ابن القيم رحمه الله: " أما قوله: (مره فليراجعها) ، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاث معان:
أحدها: ابتداء النكاح، كقوله تعالى: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله) [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق هاهنا: هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ.
وثانيهما: الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولا كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاما خصه به دون ولده: (رده) ، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائرة التي سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -جورا وأخبر أنها لا تصلح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لمن فرق بين جارية وولدها في البيع، فنهاه عن ذلك، ورد البيع، وليس هذا الرد مستلزما لصحة البيع، فإنه بيع باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته : ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة" انتهى من زاد المعاد (5/ 208).
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في بحثه: نظام الطلاق في الإسلام ص 23: "ومما احتج به مخالفونا أن زعموا أن قوله: (مره فليراجعها) دليل على وقوع الطلاق في الحيض، وهو دليل غير قائم؛ لأن المراجعة هنا المراد بها المعنى اللغوي للكلمة، وأما استعمالها في مراجعة المطلقة الرجعية ، فإنما هو اصطلاح مستحدث بعد عصر النبوة، ولم تستعمل بهذا المعنى في القرآن أصلاً ، بل استعمل الرد والإمساك فقط: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) البقرة: من الآية228، (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) البقرة: من الآية229، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الطلاق: من الآية2، (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً) البقرة: من الآية231.
وأما المراجعة فإنها استعملت في القرآن في غير هذا المعنى الاصطلاحي: استعملت في المطلّقة الطلقة الثالثة إذا تزوجت آخر وطلقها ثم تعود بنكاح جديد إلى زوجها الأول (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) البقرة: من الآية230، (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) البقرة: من الآية230" انتهى.
والحاصل : أن القائلين بعدم وقوع الطلاق في الحيض يفسرون قوله صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها) برد الزوجة إلى حالها الأول، وليس بالرجعة الاصطلاحية، ويؤكدون قولهم بأنه لا معنى لإيقاع الطلاق ثم إمساكها لإيقاع طلاق آخر عليها.
وعلى كل حال ؛ فالمسألة من مسائل الخلاف الكبيرة الشهيرة ، ولكل قول أدلته ، وتأويله لأدلة القول الآخر .
والله أعلم.