الحمد لله.
المذهب الحنفي نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله (ت 150 هـ)، ولهذا الإمام أصحاب مجتهدون أقوالهم معتبرة في مذهبه، وهم:
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب رحمه الله (ت181هـ).
ومحمد بن الحسن الشيباني رحمه الله (ت 189هـ).
وهذان يقال عنهما : "صاحبا الإمام أبي حنيفة" .
وزفر بن الهذيل بن قيس العنبري (ت158هـ).
وللحنفية قواعد في ترجيح ما هو المذهب.
جاء في كتاب "فقه العبادات على المذهب الحنفي" للحاجة نجاح الحلبي:
" القواعد العامة في ترجيح أقوال أئمة الحنفية:
أولاً: إذا اتفق الإمام أبو حنيفة وصاحباه على جواب واحد في مسألة من المسائل لا يجوز العدول عنه مطلقاً.
ثانياً: إذا وافق الإمام أحد صاحبيه لا يعدل عن قولهما إلى المخالف.
ثالثاً: إذا انفرد الإمام ، واتفق صاحباه : يرجح قول الإمام ، على الغالب ، في العبادات .
أما في القضاء : فيقدم قول أبي يوسف.
وفيما يتعلق بذوي الأرحام يؤخذ بقول الإمام محمد" انتهى، ص16 ترقيم الشاملة.
وهذا ما نص عليه ابن عابدين في عقود رسم المفتي، ص6، حيث قال:
وهنا ضوابطٌ محررة *** غدت لدى أهل النهى مقررة
في كل أبواب العبادات رجَحْ*** قول الإمام مطلقاً ما لم تصحْ
عنه رواية بها الغيرُ أخذْ*** مثلُ تيممٍ لمن تمراً نبذْ
وكل فرعٍ بالقضا تعلقا *** قول أبي يوسف فيه يُنتقى
وفي مسائل ذوي الأرحامِ قدْ*** أفتواْ بما يقوله محمّدْ " انتهى.
ولبعضهم تفصيل في الضابط الثالث:
ففي الفتاوى الخانية (1/ 3): " المفتي في زماننا من أصحابنا : إذا استفتي في مسألة ، وسُئل عن واقعة:
إن كانت المسألة مروية عن أصحابنا في الروايات الظاهرة ، بلا خلاف بينهم : فإنه يميل إليهم ويفتي بقولهم، ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهدا متقنا؛ لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم ، واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم .
ولا ينظر قول من خالفهم ، ولا يقبل حجته ؛ لأنهم عرفوا الأدلة ، وميزوا بين ما صح وما ثبت ، وبين ضده.
فإن كانت المسألة مختلفا فيها بين أصحابنا:
فإن كان مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى أحد صاحبيه: يؤخذ بقولهما؛ لوفور الشرائط ، واستجماع أدلة الصواب فيهما.
وإن خالف أبا حنيفة رحمه الله صاحباه في ذلك:
فإن كان اختلافهم اختلاف عصر وزمان، كالقضاء بظاهر العدالة: يؤخذ بقول صاحبيه؛ لتغير أحوال الناس، وفي المزارعة والمعاملة ونحوهما يختار قولهما؛ لاجتماع المتأخرين على ذلك.
وفيما سوى ذلك: قال بعضهم: يتخير المجتهد ، ويعمل بما أفضى إليه رأيه.
وقال عبد الله بن المبارك: يأخذ بقول أبي حنيفة رحمه الله" انتهى.
وهذه الضوابط السابقة فيما اذا كان لأبي حنيفة قول في المسألة .
أما اذا لم يكن له قول، ووردت في ظاهر الرواية ؛ يقدم قول أبي يوسف .
فإن لم يكن له قول : يقدم قول محمد .
فإن لم يكن له قول : يقدم قول زفر والحسن بن زياد وغيرهم ، الأكبر فالأكبر الى آخر من كان من كبار الأصحاب .
وهذا الترتيب يعتمد من قبل المفتي غير المجتهد .
أما المجتهد فيتخير بما يترجح عنده دليله.
قال الدكتور محمد إبراهيم علي ، رحمه الله :
" وينبغي أن يكون هذا عند عدم ذكر أهل المتون للتصحيح ؛ وإلا ، فالحكم بما في المتون ، كما لا يخفى " انتهى، من "المذهب عند الحنفية" (104) .
والباحث المعاصر إذا أراد أن يعرف معتمد المذهب فعليه مراجعة الكتب المعتمدة.
وأهمها:
1-كتب ظاهر الرواية ، وهذه لا يقدم عليها غيرها . وهي : " المبسوط " ؛ "والزيادات " ، " والجامع الصغير " ، " والجامع الكبير " ، " والسِّيَر " للإمام محمد بن الحسن الشيباني ، وإنما سميت بظاهر الرواية، لأنها رويت عن محمد بروايات الثقات، فهي ثابتةٌ عنه؛ إما متواترة، أو مشهورة.
2- الكافي للحاكم الشهيد محمد بن محمد المروزي البلخي المتوفي سنة 334 هـ ، فقد جمع كتب ظاهر الرواية، و"المبسوط " للسرخسي المتوفى سنة 483 هـ ، وهو شرح للكافي .
3-ومن معتمد كتب الحنفية: الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي (ت 683 هـ)، البحر الرائق لابن نجيم (ت 970 هـ)، شرح كنز الدقائق لأبي البركات النسفي (ت 710 هـ)، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان المدعو بشيخي زاده, ويعرف بداماد أفندي (ت 1078هـ)، وردّ المحتار المشهور بحاشية ابن عابدين (ت 1252 هـ)، وهي حاشية على كتاب الدُّرِّ الْمُخْتَارِ شَرْحٌ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ، للحصكفي (ت 1088 هـ).
قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 77): " أصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين، مثل صاحب الكنز، وصاحب المختار، وصاحب الوقاية، وصاحب المجمع، وشأنهم أن لا ينقلوا الأقوال المردودة والروايات الضعيفة" انتهى.
فإذا أردتِ معرفة المذهب المعتمد عند الحنفية في مسألة من هذه المسائل فراجعي هذه الكتب.
ولمعرفة تفاصيل مهمة حول أدوار المذهب ، واصطلاحه ، والمعتمد فيه : ننصحك بمراجعة بحث محرر ، للدكتور محمد إبراهيم أحمد علي ، رحمه الله ، بعنوان : "المذهب عند الحنفية" ، طبع مفردا ، وطبع أيضا ضمن بحوث أخرى ، ضمن سلسلة إصدارات "الوعي الإسلامي" ، الإصدار الخامس والأربعون ، ص (23) وما بعدها .
وينظر أيضا بحثا أوسع من ذلك ، بعنوان : "المذهب الحنفي ـ مراحله وطبقاته ، ضوابطه ومصطلحاته .. " ، للدكتور أحمد بن محمد نصير الدين النقيب ، طبعتها مكتبة الرشد في الرياض ، وهي أطروحته للحصول على درجة الماجتسير .
وكلا الكتابين متاح على الشبكة ، يمكن قراءته أو تحميله .
والله أعلم.