الحمد لله.
أولا:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَأَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ ) رواه الحاكم في " المستدرك" (4 / 215)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "السلسة الصحيحة" (6 / 148).
فالتبريك إذًا هو دعاء بحصول البركة : (فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ)، وهو في نفس الوقت ذكر لله تعالى؛ لأنه يتضمن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة ...
و "المقصود" أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه " انتهى. "مجموع الفتاوى" (15 / 19).
ثانيا:
أمر الله تعالى بحضور القلب أثناء الذكر.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحضور القلب أثناء الدعاء.
فقال الله تعالى: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) الأعراف (205).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" الذكر لله تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله، فأمر الله عبده ورسوله محمدا أصلا وغيره تبعا، بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا.
( تَضَرُّعًا ) أي: متضرعا بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، ( وَخِيفَةً ) في قلبك بأن تكون خائفا من الله، وَجِلَ القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به... " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 314).
وأمر الله تعالى بالتضرع في الدعاء أيضا ، قال الله تعالى:
( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف (55).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ ) رواه الترمذي (3479) وحسنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2 / 141).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وقد قال تعالى: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج: أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح، وتأمل كيف قال في آية الذكر: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ ) الآية. وفي آية الدعاء: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء " انتهى. "مجموع الفتاوى" (15 / 19).
لأن من أهم المقاصد التي شرع لأجلها الذكر؛ هي لكي ينتفع به القلب فيبقى قوي الارتباط بالله تعالى متفكرا في أسمائه الحسنى وصفاته العلى فيزداد بذلك إيمانه وتعلقه بالله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من ذلك الإثمار، وإن أثمر شيئا فثمرته ضعيفة " انتهى. "الوابل الصيب" (ص 221) .
فالحاصل؛ أن حضور القلب مطلوب في الذكر كما هو مطلوب في الدعاء؛ وعلى هذا فتبريك المسلم عند رؤيته ما يعجبه ينبغي أن يكون بحضور القلب حتى وإن اعتبر أنه من باب الأذكار.
ثالثا:
مواطأة القلب للسان في الدعاء والذكر، هي من الأمور المشروعة المطلوبة ، كما سبق . وهي الحال الأكمل للداعي والذاكر ..
لكنها ليست شرطا في حصول الأجر من الدعاء والذكر ، بل هي المقام الأعلى والأفضل ؛ وإلا فذكر الله نفسه خير ، على كل حال ، ودعاؤه خير وبركة على كل حال ، واشتغال اللسان بذكر الله ودعائه : خير على كل حال .
مع أن اللسان لا ينبعث بهذا الذكر المعين ، في مناسبته ، إلا وقد قام بالقلب من الحضور ما يبعثه لاختيار هذا الذكر دون غيره ، أو هذا الدعاء المعين ، في المقام اللائق به .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى:
" لا ريب أن تدبر الذاكر لمعاني ما يذكر به أكمل؛ لأنه بذلك يكون في حكم المخاطب والمناجي.
لكن؛ وإن كان أجر هذا أتم وأوفى، فإنه لا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من ثواب الأذكار لمن جاء بها فإنه أعم من أن يأتي بها متدبرا لمعانيها متعقلا لما يراد منها أولا، ولم يرد تقييد ما وعد به من ثوابها بالتدبر والتفهم " انتهى. "تحفة الذاكرين" (ص 45).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (235993).
والله أعلم.