الحمد لله.
أولا :
بر الوالدين من آكد الفرائض التي أمر الله بها عباده، وقرنه بالأمر بتوحيده سبحانه، فقال: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء/23-24 ، وقال عز وجل : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) النساء/36.
وهذا البر يكون بطاعتهما واحترامهما وتوقيرهما ، والدعاء لهما ، وخفض الصوت عندهما ، والبشاشة في وجوههما ، وخفض الجناح لهما ، وترك التأفف والتضجر عندهما ، والسعي في خدمتهما ، وتحقيق رغباتهما ، ومشاورتهما ، والإصغاء إلى حديثهما ، وترك المعاندة لهما ، وإكرام صديقهما في حياتهما وبعد موتهما .
ومن البر : زيارتهما ، وتقديم الهدايا لهما ، وشكرهما على تربيتك والإحسان إليك صغيرا وكبيرا .
وبالجملة : فبر الوالدين : مصاحبتهما بالمعروف ، والإحسان إليهما قولا وفعلا ، كما قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ) الأحقاف/15 ، وقال سبحانه : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) العنكبوت/8 ، وقال تعالى : ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) سورة لقمان/15
وكما أن البر واجب، فإن العقوق وقطيعة الرحم من كبائر الذنوب، كما روى البخاري (5976) ومسلم (87) عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ، فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ : لَا يَسْكُتُ).
ثانيا :
لا يجوز للأب أن يهجر أبناءه، ولا أن يدعوهم لهجره؛ لما في ذلك من الدعوة للإثم وقطيعة الرحم.
قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) محمد/22،23 .
وروى البخاري (6237) ومسلم (2561) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ ).
وهذا عام في هجر كل مسلم، وهو في الوالدين أعظم وأشد.
وإذا كان الأب لا يريد من أبنائه أن يزوروه ، ويهددهم بإهانتهم وغلق الباب .. ونحو ذلك .
فالواجب هو البحث عن الأسباب التي أدت بالأب إلى هذا التصرف ، فقد يكون مريضا أو يمر بحالة نفسية غير مستقرة ، أو يكون في خصومة مع أولاده ، وقد أساؤوا إليه ، أو أخطأوا في حقه .. أو غير ذلك من الأسباب .
فإذا عرف السبب : فالذي ينبغي هو السعي في إزالته حتى يعود الأب إلى طبيعته وهدوئه ، ويمكن الاستعانة بكبار العائلة أو أصدقاء الوالد الذين يحترمهم ويحبهم ، حتى يكونوا أقدر على التأثير عليه .
فإذا بذل الأولاد كل ما في وسعهم لإرضاء أبيهم والاعتذار إليه – إن كانوا أخطأوا في حقه – وإصلاح أخطائهم ؛ ثم إنه مع كل ذلك ، أصَرَّ الأب على موقفه : فلا حرج عليهم في هذه الحالة أن يتركوا زيارته ، لأن الزيارة التي سيقابلها الأب بغلق الباب والإهانة .. إلخ لا مصلحة فيها ، ولا إحسان فيها للأب ، بل تزيد الأمر سوءًا وتوترا وكراهية وبغضا ، ومثل هذه الزيارة لا يأمر بها الشرع .
على أنهم في هذه الحالة لا يقاطعونه ، بل يستمرون في التواصل معه ، ما أمكنهم ذلك ، ولو عن طريق إرسال الرسائل النصية ، التي فيها الحب والاعتذار والتوقير والإقرار بحقه والسؤال عنه ... إلخ .
وإذا استطاعوا أن يرسلوا له بعض الهدايا مع أحد أصدقائه أو أقاربه فهو أفضل ، لعل ذلك يكون سببا لهدايته ولين قلبه .
والله أعلم.