الحمد لله.
أولا :
إذا تبرع الإنسان بربح ماله لا بأصله وجعل ذلك على الدوام فهذا وقف .
وبناء على هذا ؛ فحقيقة التصرف الذي فعله والدك أنه أوقف هذا المال على أن توزع أرباحه في أوجه الخير بعد وفاته ، وهذا التصرف يحتمل أنه أوقفه على نفسه ثم على أوجه الخير بعد وفاته.
ويحتمل أنه أوقفه على أوجه الخير لكنه استثنى الانتفاع بالأرباح في حياته .
وهذان الاحتمالان لا يحمل عليهما تصرف والدك ، لأن الوقف على النفس أو الوقف مع استثناء المنفعة مدة الحياة ليست من الأقوال المشهورة في بلادكم ، فإنه لم يقل بذلك إلا الحنابلة ، فمثل هذه المسائل لا يعرفها إلا من درس الفقه ، فلا تحمل عليها تصرفات عامة الناس .
ينظر : الإنصاف (7/16، 18) ، الموسوعة الفقهية (44/143) .
وعلى هذا ؛ فلم يبق إلا أن والدك أراد الوصية بوقف هذا المال بعد وفاته ، وتصرف أرباحه في أوجه الخير .
وهي وصية جائزة ، ويجب على الورثة تنفيذها إذا كان هذا المبلغ لا يزيد عن ثلث التركة .
وما زاد عن الثلث فإن الوصية فيه لا تنفذ إلا برضى الورثة .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (8/216) :
"فَأَمَّا إذَا قَالَ : هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
...
ويدل عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ ، مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ وَصَّى ، فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ : هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ : أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ [أرض بالمدينة] صدقة ... رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا ، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا" انتهى .
وقال المرداوي في "الإنصاف" (16/398) :
"إذا قال : هو وَقْفٌ مِن بعدِ مَوْتِي، فيَصِحَّ في قَوْلِ الخِرَقيِّ. وهو المذهبُ...
فعلى المذهبِ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثلُثِ" انتهى .
وينظر السؤال رقم (111918) .
ثانيا :
ما دام الوالد قد أوصاك بذلك : فالواجب عليك أن تنفذ تلك الوصية – في حدود ثلث التركة كما سبق – ولا يجوز أن يرد المال إلى التركة ، لأن الوصية مقدمة على حق الورثة ، قال الله تعالى في تقسيم الميراث : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) النساء/11 .
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"يجب على القائم على تنفيذ الوصية أن يتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الوصية، وذلك بتنفيذها كما حدده الموصي، فإنه مؤتمن فيما وكل إليه.
الشيخ بكر أبو زيد ... الشيخ صالح الفوزان ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (16/350) .
وقالوا أيضا (16/369) :
"يجب على الولي في الوصية الشرعية أن ينفذها، فإن لم ينفذ الوصي الوصية ، أو أساء تنفيذها فإن الوزر على الولي، قال تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى .
ثالثا :
إذا كان المال مودعا في بنك ربوي ، فإن هذا محرم ومن كبائر الذنوب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : (لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء) رواه مسلم (1598) .
والواجب سحب هذا المبلغ من البنك الربوي ، وإيداعه في بنك إسلامي ، أو في استثمار شرعي آمن ، يغلب فيه السلامة .
رابعا :
الوصية بصرف أرباح المال لأعمال الخير ، تشمل جميع أعمال الخير ، كالصدقة على الفقراء والمساكين والمساهمة في بناء المساجد .. ونحو ذلك .
وأقارب الوالد الفقراء والمحتاجون : هم أولى بهذه الأموال .
لأن "القرابة أحق في الحياة بالصدقة والصلة، وبعد الموت بالوصية" الشرح الكبير (18/163) .
فتعطي أقاربك من جهة الوالد من هذا الوقف .
والله أعلم .