الحمد لله.
أولا:
من أداب الدعاء المعلومة المقررة : أن يتضرع العبد إلى ربه في دعائه ، ونجواه ، ويظهر مسكنته وخضوعه لأرحم الراحمين ، ويبدي حاجته وفقره إلى الغني الحميد .
قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الأعراف /55.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" ( تَضَرُّعًا )، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته " انتهى من "تفسير الطبري" (10 / 247).
وقال الله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ السجدة /16.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ولهذا قال: ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما. ( خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب الله، وطمعًا في ثوابه " انتهى من "تفسير السعدي" (655).
وقد وصف ابن عباس رضي الله عنهما ، حال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج للاستسقاء ، فَقَالَ:
" خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَبَذِّلًا مُتَمَسْكِنًا مُتَضَرِّعًا مُتَوَاضِعًا، وَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ " . رواه ابن حبان (2862) وحسنه الألباني .
وروي عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، أَنْ تَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنْ تَبَاءَسَ، وَتَمَسْكَنَ، وَتُقْنِعَ بِيَدَيْكَ، وَتَقُولَ: اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَهِيَ خِدَاجٌ .
رواه أبو داود (1296) ، والترمذي (385) وغيرهما ، وضعفه الألباني .
وكان مطرف بن عبد الله قد حبس له ابن أخ، فلبس خلقان ثيابه، وأخذ عكازا بيده، فقيل له: ما هذا؟ قال: أستكين لربي، لعله أن يشفعني في ابن أخي.
"جامع العلوم والحكم" (1/270) .
قال ابن الوزير رحمه الله :
" والاستضعاف : ذوقُ الافتقار إلى الله تعالى، فيحمله على الالتجاء إلى الله تعالى ، بذَوْقِ الضرورة إلى ذلك، وذلك أقرب أحوال العبد إلى الله تعالى ... ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام: 43] .
فجعل التَّضرُّع سبباً للنجاة ، بعد مجيء بأس الله، والضرورات تستلزمه، فإن الغنى والعافية يسلُبان ذوق الافتقار إلى الله، ويجد صاحبها في قلبه برد الغنى، وكفاية الاستغناء، فيغفل عن التضرع، ولا يذوق طعم الافتقار، فيبعد بذلك عن الله تعالى .
وإن ذَوْقَ الافتقار والإقبال على الله تعالى في طلب كشف الضرورات، وقضاء المهمات : خيرٌ للعبد من مطلوبه الذي طلبه، وإنما الضرورات للعبد كالسَّوط للدَّابَّة " انتهى من "العواصم والقواصم" (9/357).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (1535).
ثانيا:
روى مِحْجَنَ بْنَ الْأَدْرَعِ رضي الله عنه : " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
قَالَ: فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ؛ ثَلَاثَ مِرَارٍ رواه الإمام أحمد في "المسند" (31 / 310)، وابن خزيمة في صحيحه (724)، والحاكم في "المستدرك" (1 / 267)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"، ووافقه الذهبي.
فقوله: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ".
هذه العبارة : الأقرب في معناها أنها من باب التوسل إلى الله جل جلاله ، بين يدي الدعاء ؛ وهي تحتمل وجهين من التوسل :
التوسل "بإيمان العبد" و"عمله الصالح" ؛ يعني : أسألك متوسلا بشهادتي بأنك الله الواحد ...
كما جاء في حديث عَبْد اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ رواه أبو داود (1493)، والترمذي (3475)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
ونظير التوسل بإيمان العبد ، وهو أعظم عمله الصالح ، قوله تعالى:
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ آل عمران/193.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" (فَآمَنَّا) أي: أجبناه مبادرة، وسارعنا إليه، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم، وتبجح بنعمته، وتوسل إليه بذلك، أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، والذي من عليهم بالإيمان، سيمن عليهم بالأمان التام " .
انتهى من "تفسير السعدي" (ص 161).
والوجه الثاني من التوسل : التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ؛ أي : أسألك متوسلا بما وصفت وسميّت به نفسك ، وهو أنك أنت الله الواحد ...
كما تشير إليه رواية ابن ماجه (3857): عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه".
والتوسل بأسماء الله وصفاته أمر مشروع محمود كما في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا الأعراف/180.
ثالثا :
وأما القسم على الله في دعائه ، فهل تدل هذه الجملة من الحديث عليه ؟
يحتمل ذلك ، وأن يقال :
إنه الداعي هنا أقسم على الله بأسمائه وصفاته الحسنى . وإليه يشير كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" واتفقوا على أن الله يُسأل ، ويقسم عليه ، بأسمائه وصفاته، كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان ، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام" . انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/306) .
وسواء دل الحديث المعين الذي معنا على مشروعية القسم على الله تعالى في الدعاء ، أو لم يدل عليه ، فالأقرب : أن ذلك جائز مشروع ، إذا كان على وجه تغليب حسن الظن برب العالمين ، وقوة الرجاء في تحقيق دعاء الداعي ، وشدة الفقر والإلحاح في طلب الحاجة من رب العالمين ، وقوة العزم في ذلك ، ولم يكن على وجه الدعوى على رب العالمين ، أو التألي عليه ، أو رؤية النفس ، وأن لها فضلا ، أو حقا على رب العالمين ، سوى ما أحقه على نفسه ، وأوجبه على نفسه الكريمة لعباده .
روى البخاري (6071) ، ومسلم (2583) ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ .
وروى مسلم (2622) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ .
قال النووي رحمه الله : " أي لو حلف على وقوع شئ أَوْقَعَهُ اللَّهُ ، إِكْرَامًا لَهُ بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ، وَصِيَانَتِهِ مِنَ الْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ ؛ وَهَذَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا عِنْدَ النَّاسِ . وَقِيلَ : مَعْنَى الْقَسَمِ هُنَا : الدُّعَاءُ ، وَإِبْرَارُهُ : إِجَابَتُهُ " انتهى من "شرح مسلم" (16/175) .
وفي سنن الترمذي (3854) وغيره ، وصححه الألباني : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمُ البَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ .
ورى مسلم (2542) ، في فضائل أويس القرني :
يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ .
فتأمل ؛ كيف بينت هذه الأحاديث من عباد الله من لو "أقسم على الله " ، لم يخيب الله له رجاءه ، ولا أخلف له ظنه، ولا رد عليه طلبه ، ولو خرج في ثوب القسم على الله ؛ فإن الله لا يحنثه ؟!
وتأمل كيف أن هذه الأحاديث، قد قرنت بين هذا المقام ، ووصف أهله : بالضعف ، والمسكنة ، ورقة الحال ؛ حتى لا يكاد يعرف لهم الناس حقا ، ولا يرون لهم قدرا !!
وليس هذا فرضا ، ولا تقديرا محضا ، بحيث يقال : إن هذا على سبيل المبالغة في وصفهم ، وبيان مقامهم من الله ، غير أن أحدا من هؤلاء لم يفعل ذلك ، ولا أقسم على الله .
فيقال :
قد روى البخاري (4500) عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا العَفْوَ فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَوْا، إِلَّا القِصَاصَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ فَرَضِيَ القَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ " .
وفي رواية مسلم (1675) أن الذي أقسم هي أم الربيع .
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله :
" (أيُقْتَصُّ من فلانة ، والله لا يُقتصُّ منها ؟! ) : ثقة منه بفضل الله تعالى ، وتعويلاً عليه في كشف تلك الكُرْبة ، لا أنه ردَّ حكم الله وعانده ، بل هو مُنزَّهٌ عن ذلك لما علم من فضله ، وعظيم قدره ، وبشهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بما له عند الله تعالى من المنزلة .
وهذا التأويل أولى من تأويل من قال : إن ذلك القسم كان منه على جهة الرَّغبة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو للأولياء ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنكر ذلك عليه بقوله: ( سبحان الله! كتاب الله القصاص) !! ولو كان رَغِبَهُ لما أنكره.
وأيضًا : فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سمَّاه قسمًا ، وأخبر : أنه قسم على الله ، وأن الله تعالى قد أبرَّه فيه لما قال : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه)." انتهى من "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأما إذا أقسم على الله تعالى ، مثل أن يقول: أقسمت عليك يا رب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف ؛ فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره". .
وفي الصحيح أنه قال، لما قال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أنس، كتاب الله القصاص" فعفا القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر ؛ فهو إقسام عليه تعالى به، وليس إقساماً عليه بمخلوق " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/346) .
ومتى خرجت على وجه "الدعوى" ، أو رؤية النفس وحالها ، أو المن على رب العالمين ، أو التقدم بين يديه : لم يخف المنع منها .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" هل يجوز للإنسان أن يقسم على الله؟ " .
فأجاب بقوله:
" الإقسام على الله أن يقول الإنسان: والله، لا يكون كذا وكذا، أو والله لا يفعل الله كذا وكذا .
والإقسام على الله نوعان:
أحدهما: أن يكون الحامل عليه قوة ثقة المقسم بالله -عز وجل- وقوة إيمانه به ، مع اعترافه بضعفه ، وعدم إلزامه الله بشيء فهذا جائز .
ودليله : قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره. ودليل آخر واقعي، وهو حديث أنس بن النضر : «حينما كسرت أخته الربيع سنا لجارية من الأنصار، فطالب أهلها بالقصاص ، فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أنس، كتاب الله القصاص ، فرضي القوم ، فعفوا ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره وهو -رضي الله عنه-لم يقسم اعتراضا على الحكم، وإباء لتنفيذه ، فجعل الله الرحمة في قلوب أولياء المرأة التي كسرت سنها، فعفوا عفوا مطلقا، عند ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فهذا النوع من الإقسام لا بأس به.
النوع الثاني: من الإقسام على الله : ما كان الحامل عليه الغرور والإعجاب بالنفس، وأنه يستحق على الله كذا وكذا فهذا والعياذ بالله محرم، وقد يكون محبطا للعمل .
ودليل ذلك : أن رجلا كان عابدا، وكان يمر بشخص عاص لله، وكلما مر به نهاه فلم ينته، فقال ذات يوم: والله لا يغفر الله لفلان -نسأل الله العافية- فهذا تحجر رحمة الله؛ لأنه مغرور بنفسه فقال الله -عز وجل-: من ذا الذي يتألى علي، ألا أغفر لفلان قد غفرت له، وأحبطت عملك قال أبو هريرة: تكلم بكلمة، أوبقت دنياه وآخرته " انتهى من "فتاوى ورسائل العثيمين" (3/79) . وينظر : "شرح رياض الصالحين" (3/49) و(3/65) .
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك ، حفظه الله في الكلام عن عبارة " أقسم بك عليك " ، ونحوها ، وبيان أنها ليست من الهدي المشروع على صفة الدوام ، شأن الأدعية والأذكار النبوية المأثورة :
" وقوله: (وأقسم بك عليك) : شاهده قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" .
والإقسام على الله ليس مشروعا، بل قد يكون جائزا ، وقد يكون محرما ، بحسب الباعث عليه والمطلوب به .
وغالب الإقسام على الله ، أن يقول القائل في الأمور الغيبية : والله ليكونن كذا ، أو لا يكون كذا. فإن تضمن الإقسام بالله : حسن الظن به ، وصدق الرجاء : كان جائزا؛ كقول أنس بن النضر: "والله لا تُكسر ثنية الرُّبَيِّع".
وإن تضمن سوء الظن بالله ، والكذب عليه : كان حراما، كقول ذلك الرجل: (والله لا يغفر الله لفلان) .
وأما قول القائل: أقسم عليك يا ألله، أو أقسم بك عليك، فقد أثر معناه عن بعض الصحابة، وهو البراء بن مالك، وذلك نوع من الدعاء، وحكمه بحسب المطلوب، ما يجوز طلبه وما لا يجوز. " انتهى .
رابط المادة: http://iswy.co/e460s
ولا شك أن السلامة أسلم على كل حال ، ولزوم باب الافتقار ، ودوام المسكنة لرب العالمين ، هو الأليق بحال العبد ، والأوجه له في مقام الدعاء والطلب من رب العالمين .
ثم هو حال سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" والخلق كلهم يسألون الله ، مؤمنهم وكافرهم .
وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا ، وكان الإنسان كفورا .
وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون " .
انتهى من "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (96) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (217044) .
والله أعلم.