الحمد لله.
رغب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أن يُدفنا قرب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلبّت عائشة رضي الله عنها ذلك، وباركته ، وسارعت بالاستجابة له ، وآثرت به على نفسها .
فقد أخرج الطبري (3/422) بسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولانِ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حُفِرَ لَهُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد التمس ذلك من عائشة ، واهتم لذلك خشية أن لا تأذن.
أخرج البخاري (3700) عن عمر بن الخطاب أنه أمر ابنه عبد الله وهو في فراش موته بعدما طُعِن :
( انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ : يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ ، وَلَا تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا ، وَقُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ ، فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ : يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ ، فَقَالَتْ : كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي ، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي .
فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ : هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ ! قَالَ ارْفَعُونِي ، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا لَدَيْكَ ؟ قَالَ : الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَذِنَتْ .
قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ ) .
والرغبة في الدفن قرب الصالحين أمر شائع ، معروف لدى أهل الصلاح ، رغب فيه الكثير من السلف والخلف .
فكيف بمجاورة سيد المرسلين وخير البرية أجمعين ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال ابن بطال :
"وإنما استأذنها عمر في ذلك ورغب إليها فيه، لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها لذلك، فآثرت به عمر .
وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلتها على ما فعلت ، حين رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرها، فقصتها على أبى بكر الصديق، فلما توفى رسول الله، ودفن في بيتها ، قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها.
فيه من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصالحين في القبور ، طمعًا أن تنزل عليهم رحمة ، فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم في قبورهم من الصالحين" انتهى من "شرح البخاري" (3/380) .
وقد كان من موسى عليه الصلاة والسلام أن سأل الله عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر .
رواه البخاري (1339) ومسلم (2372) .
قال ابن بطال رحمه الله :
" معنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة - والله أعلم - لفضل من دُفن في الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين ، فاستحب مجاورتهم في الممات ، كما يستحب جيرتهم في المحيا .
ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة ، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها " انتهى من "شرح البخاري" (3/325) .
وقال ابن قدامة :
" ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء ؛ لتناله بركتهم ، وكذلك في البقاع الشريفة .
وقد روى البخاري ومسلم بإسنادهما " أن موسى - عليه السلام - لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر " انتهى من "المغني" (2/380) .
وقال البهوتي رحمه الله :
" ( و ) يستحب أيضا الدفن في ( ما كثر فيه الصالحون ) ؛ لتناله بركتهم ، ولذلك التمس عمر الدفن عند صاحبيه وسأل عائشة حتى أذنت له " انتهى من "كشاف القناع" (2/142) .
وينظر جواب السؤال (146927) .
والخلاصة :
أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أوصيا أن يدفنا قرب النبي صلى الله عليه وسلم ، فكما كانا ألصق أصحابه به في حياته ، ورافقاه في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، فقد أحبا أن يكونا أقرب الناس إليه في قبره بعد مماته ، ولا أحد أولى منهما بذلك ، وقد أكرمهما الله عز وجل بذلك .
والله أعلم .