الحمد لله.
أولا:
الظاهر أن هذا الأخ يتبع المذهب الحنفي ، ولذلك سيكون الجواب بذكر المذهب الحنفي في هذا، والرد على أدلتهم .
ثانيًا:
نصت السنة على أنه إذا أُقيم لصلاة الفرض ، فعلى المصلي أن لا ينشغل عنها بنافلة.
عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ ) رواه مسلم (710).
وقد وافق ورقاء -في رواية هذا الحديث مرفوعا- عدد من الرواة.
وخالف حماد بن زيد وسفيان بن عيينة فرووه عن عمرو بن دينار موقوفا على أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى:
" وهكذا روى أيوب، وورقاء بن عمر، وزياد بن سعد، وإسماعيل بن مسلم، ومحمد بن جحادة: عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، فلم يرفعاه.
والحديث المرفوع أصح عندنا.
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا أقيمت الصلاة أن لا يصلي الرجل إلا المكتوبة.
وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، رواه عياش بن عباس القتباني المصري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا " انتهى، من "سنن الترمذي" (2 / 283 - 284).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وقد اختلف فِي رفعه ووقفه، واختلف الأئمة فِي الترجيح، فرجح الترمذي رفعه.
وكذلك خرجه مُسْلِم فِي "صحيحه"، وإليه ميل الإمام أحمد.
ورجح أبو زُرْعَة وقفه، وتوقف فِيهِ يَحْيَى بْن معين، وإنما لَمْ يخرجه البخاري لتوقفه، أو لترجيحه وقفه. والله أعلم" انتهى. "فتح الباري" (6 / 55).
ويظهر أن الذين خالفوا سفيان ورووا الحديث عن عمرو بن دينار مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هم جماعة يستبعد أن يهموا.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى:
" وقد وقف قوم هذا الحديث على أبي هريرة، منهم؛ سفيان بن عيينة، والذين يرفعونه أكثر عددا، وكلهم حافظ ثقة ، فيجب قبول ما زادوه وحفظوه .
على أن ما صح رفعه لا حرج على الصاحب في توقيفه؛ لأنه أفتى بما علم منه " انتهى. "الإستذكار" (5 / 308).
وقد صح من السنة ما يشهد لرواية الحديث مرفوعا .
فروى البخاري (663) ومسلم (711): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَثَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( آلصُّبْحَ أَرْبَعًا، آلصُّبْحَ أَرْبَعًا ؟! ).
وقد بوّب عليه البخاري بمتن حديث أبي هريرة، فقال: "باب إذا أقيمت الصلاة ، فلا صلاة إلا المكتوبة".
وهذا الحكم متفق عليه بالنسبة لصلاة النوافل فإنها لا تصلي إذا أقيم للصلاة المكتوبة، باستثناء سنة الفجر فقد وقع حولها خلاف.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ولا نعلم خلافاً : أن إقامة الصلاة ، تقطع التطوع ؛ فيما عدا ركعتي الفجر .
واختلفوا فِي ركعتي الفجر: هَلْ تقطعهما الإقامة ؟ " انتهى، من "فتح الباري" (6 / 59).
فذهب الحنفية إلى أن ركعتي الفجر تقدمان ، إذا أمن المصلي أن يدرك الركعة الثانية مع الإمام على ظاهر المذهب، أو التشهد على القول الآخر في المذهب.
جاء في "حاشية ابن عابدين" (1 / 378):
" (وكذا يكره تطوع عند إقامة صلاة مكتوبة) .. لحديث : إذا أقيمت الصلاة ، فلا صلاة إلا المكتوبة ، (إلا سنة فجر ، إن لم يخف فوت جماعتها) ، ولو بإدراك تشهدها .
فإن خاف : تركها أصلا ".
الحاشية: (قوله: ولو بإدراك تشهدها) : مشى في هذا على ما اعتمده المصنف والشرنبلالي تبعا للبحر .
لكن ضعفه في النهر، واختار ظاهر المذهب : من أنه لا يصلي السنة ، إلا إذا علم أنه يدرك ركعة . وسيأتي في باب إدراك الفريضة ح.
قلت: وسنذكر هناك تقوية ما اعتمده المصنف عن ابن الهمام وغيره " انتهى.
ويصليها على المذهب إن أمكن خارج المسجد، وإذا لم يستطع ، فيصليها داخل المسجد ، في ناحية منه ، منعزلا عن الصفوف.
وحجتهم أن سنة الفجر قد ورد الحث الشديد على عدم تفويتها، وما ورد من نهي النبي صلى الله عليه وسلم لمن صلى لما أقيمت صلاة الصبح؛ فهذا لأنه لم يفصل بين الصلاتين.
روى الإمام أحمد في "المسند" (38 / 13)، بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ: ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، يُطَوِّلُ صَلَاتَهُ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، بَيْنَ يَدَيْ صَلَاةِ الْفَجْرِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَجْعَلُوا هَذِهِ مِثْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، اجْعَلُوا بَيْنَهُمَا فَصْلًا ).
وعلق عليه محققو المسند، بقولهم: " إسناده صحيح إن كان محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان سمعه من ابن بُحينة، ففي القلب من سماعه شيءٌ " انتهى.
وعلق الطحاوي رحمه الله تعالى؛ فقال:
" فبيّن هذا الحديث أن الذي كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن بحينة، هو وصله إياها بالفريضة في مكان واحد، لم يفصل بينهما بشيء، وليس لأنه كره له أن يصليها في المسجد، إذا كان فرغ منها تقدم إلى الصفوف، فصلى الفريضة مع الناس " انتهى. "شرح مشكل الآثار" (1 / 373).
وروى عبد الرزاق في "المصنف" (2 / 444) بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: ( جَاءَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْإِمَامُ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى سَارِيَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ).
جاء في "حاشية ابن عابدين" (1 / 378):
" (قوله: إلا سنة فجر) لما روى الطحاوي وغيره عن ابن مسعود : أنه دخل المسجد ، وأقيمت الصلاة ، فصلى ركعتي الفجر في المسجد إلى أسطوانة ، وذلك بمحضر حذيفة وأبي موسى ... " انتهى.
وأجيب عما ذكره الطحاوي بأن الفصل بين الفرض والنفل : يحصل بسلام المتنفل ، وانتقاله إلى الصف ، ونحو ذلك ، فلا معنى لتخصيصه بالصورة التي ذكروها .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وذهب بعضهم إلى أن سبب الإنكار عدم الفصل بين الفرض والنفل ، لئلا يلتبسا ؛ وإلى هذا جنح الطحاوي ، واحتج له بالأحاديث الواردة بالأمر بذلك .
ومقتضاه : أنه لو كان في زاوية من المسجد : لم يُكره .
وهو متعقب بما ذُكر ؛ إذ لو كان المراد مجرد الفصل بين الفرض والنفل : لم يحصل إنكار أصلا لأن ابن بحينة سلم من صلاته قطعا ، ثم دخل في الفرض .
ويدل على ذلك أيضا حديث قيس بن عمرو الذي أخرجه أبو داود وغيره : أنه صلى ركعتي الفجر بعد الفراغ من صلاة الصبح ، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله ، لم ينكر عليه قضاءهما بعد الفراغ من صلاة الصبح ، متصلا .
بها فدل على أن الإنكار على ابن بحينة إنما كان للتنفل حال صلاة الفرض ، وهو موافق لعموم حديث الترجمة ... " . انتهى، من "فتح الباري" (2/151) .
ويدل – أيضا – على ضعف تأويل الأحناف في ذلك : حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( يَا فُلَانُ! بِأَيِّ الصَّلَاتَيْنِ اعْتَدَدْتَ؟ أَبِصَلَاتِكَ وَحْدَكَ، أَمْ بِصَلَاتِكَ مَعَنَا؟ ) رواه مسلم (712).
فهذا الحديث صريح في النهي عن الصورة التي أجازها الحنفية ، لأن الصحابي لما صلى لم يكن مخالطا للصفوف، بل كان في جانب من المسجد .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم حجة في نفسه ، لا يعارَض بفعل أو قول أحد من الصحابة رضوان الله عليهم.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت). رواه أبو سلمة عن أبي هريرة، وعطاء بن يسار عن أبي هريرة؛ والحجة عند التنازع: السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح، ومن استعملها فقد نجا " انتهى، من "التمهيد" (22 / 74).
وقد وردت رواية تستثني سنة الفجر من هذا الحكم، وهي ما رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5 / 291)؛ حيث قال:
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ، إِلَّا رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ ).
وهذا سند ضعيف.
قال البيهقي رحمه الله تعالى:
" وهذه الزيادة لا أصل لها، وحجاج بن نصير، وعباد بن كثير ضعيفان.
وقد قيل: عن حجاج بإسناده، عن مجاهد بدل عطاء، وليس بشيء " انتهى. "السنن الكبرى" (5 / 291).
ثالثًا:
وأما إذا كان المصلي قد ابتدأ صلاة الراتبة ثم أقيمت الصلاة ؛ فقد اختلف أهل العلم في ذلك : هل يقطع الصلاة التي كان قد شرع فيها ، أو يتمها خفيفة ، ما لم يخش فوات الجماعة ؟
والراجح أن هذه الحالة تتناولها ظواهر أحاديث النهي عن الصلاة إذا أقيم للمكتوبة، فإنها لم تفرق بين الابتداء وبين الاستمرار، كما أن علة النهي عن ابتداء النافلة ، حاصلة أيضا في الاستمرار، وهي الانشغال عن المكتوبة التي أقيم لها، والتخلف عن متابعة الإمام.
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم (33582) .
رابعًا :
وأما استدلال الحنفية على جواز صلاتها بعد إقامة الصلاة ، بشدة حث السنة على عدم تفويت سنة الفجر ؟
فيجاب عنه : بأنه لا يلزم من التأكيد على صلاة الراتبة ، صلاتها وقد أقيمت الفريضة ؛ لا سيما وقد وردت السنة فيمن فاتته راتبة الفجر قبل الصلاة ، أن يقضيها بعد صلاة الفجر ، أو بعد طلوع الشمس .
والقول بالقضاء هو مذهب الجمهور ، وقال به محمد بن الحسن من الحنفية ، واختاره الإمام الطحاوي رحمه الله .
قال السرخسي رحمه الله تعالى:
" وإن انفردت -أي سنة الفجر- بالفوات : لم تُقضَ عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى؛ لأن موضعها بين الأذان والإقامة ، وقد فات ذلك بالفراغ من الفرض .
وعند محمد رحمه الله تعالى يقضيها إذا ارتفعت الشمس قبل الزوال ، هكذا روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما " انتهى. "المبسوط" (1 / 162).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وقال النووي : الحكمة فيه : أن يتفرغ للفريضة من أولها ، فيشرع فيها عقب شروع الإمام ، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة اهـ.
وهذا يليق بقول من يرى بقضاء النافلة، وهو قول الجمهور" انتهى، من "فتح الباري" (2/150) .
ودليل مشروعية قضاء راتبة الفجر ، بعد طلوع الشمس : حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَقَضَاهُمَا بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ ) رواه ابن ماجه (1155)، والطحاوي نحوه، وقال عقبه:
" فهذا الحديث أحسن إسنادا وأولى بالاستعمال مما قد رويناه قبله في هذا الباب.
وقد روي عن عبد الله بن عمر عن نفسه مثل ذلك ...
فهذا ابن عمر قد كان يقضيهما إذا طلعت الشمس، وحلَّت الصلاة، وذلك عندنا أولى مما سواه مما قيل في هذا الباب مما يخالف ذلك، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من حديث أبي هريرة، ثم لما روي عن ابن عمر مما يوافقه، ولما روي عن القاسم مما يوافق ذلك " انتهى. "شرح مشكل الآثار" (10 / 328 - 330).
وأما صلاتهما بعد الصلاة فقد سبق ذكر دليله من السنة في الفتوى رقم (65746) .
والله أعلم.