من المراد اتصافهم بالسقيا في القرآن، أي من هم الذين ستسقيهم الملائكة؟ ومن الذين سيسقيهم رب العباد؟ ومن الذين سيشربون من يد النبي عليه الصلاة والسلام؟
الحمد لله.
أولا:
من النعم التي وعد بها المؤمنون يوم القيامة أنهم يسقون ما تشهيه الأنفس من الأشربة.
قال الله تعالى في وصف النعيم يوم القيامة: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ محمد/15.
ثانيا:
لم نقف على ما يدل أن الله يسقى بعض عباده بيده سبحانه وتعالى.
وما ورد في قوله تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) ؛ فنسبة السقيا إلى الله تعالى فيه – (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ ) – : هي نسبة إنعام وتفضل، فهو المنعم بهذا الشراب الطهور.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: ” وأسند سقيه إلى ربهم: إظهارا لكرامتهم، أي: أمر هو بسقيهم ، كما يقال: أطعمهم رب الدار ، وسقاهم ” انتهى. “التحرير والتنوير” (29 / 400).
وهذا شبيه بقول إبراهيم عليه السلام، في قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ الشعراء/77 – 79.
ثالثا:
شرّف الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بأن وهبه سبحانه وتعالى شرابا يسقيه أمته يوم القيامة، فوهبه الله الحوض في عرصات القيامة، قبل دخول أهل الجنة إلى الجنة.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292).
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ رواه البخاري (6583)، ومسلم (2290).
وكذا وهبه الله تعالى نهر الكوثر في الجنة، قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
الكوثر /1.
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ قَالَتْ: نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ رواه البخاري (4965).
وورد ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم يناول بعض أمته من الكيزان أو الأباريق التي يشربون بها.
فعَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ، حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ، اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي، يَقُولُ: لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ رواه البخاري (7049).
فقوله: حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ: ظاهره أنه يسقيهم صلى الله عليه وسلم بنفسه.
قال القاضي عياض رحمه الله في “المشارق” (2/32) : ” وقوله: (أهويت لأناولهم): أي: أسقيهم بيدي” .
ونحوه عند ابن قرقول في المطالع .
وكان من دعاء إبراهيم بن أدهم: “اللهم أوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربا مريا سائغا هنيا لا نظمأ بعده أبدا”، كما في “حلية الأولياء ” (8/ 39).
وفي منسك المروذي عن الإمام أحمد، قال: “ثم ائت الروضة، وهي بين القبر والمنبر، فصلّ فيها وادع بما شئت، ثم ائت قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك بلّغت رسالة ربك ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبّل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى كما تقبّل من إبراهيم، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفّنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربا رويا لا نظمأ بعدها أبدا“، نقله ابن تيمية في “الإخنائية” (ص119).
لكن لا يلزم من هذا أنه سيسقي كل المؤمنين بنفسه، فقد تكون هذه كرامة يكرم الله بها بعض عباده، وأما سائر الأمة فيشربون من آنية الحوض، كما في حديث عبد الله بن عمرو وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292).
وفي حديث أنس: وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ رواه البخاري (6580)، ومسلم (2303).
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: هل يسقيهم النبي لي الله عليه وسلم بيده؟
فال: “جاء في بعض الروايات أنه يسقي بعضهم بيده”. انتهى من “الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (4/ 278)”
رابعا:
لم نقف على ما يثبت أن الملائكة يسقون المؤمنين أو طوائف منهم، والمعروف من نصوص الوحي المشهورة أن لأهل الجنة خدما يطوفون عليهم بآنية الشرب.
قال الله تعالى:
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الواقعة /17 – 18.
وقال الله تعالى:
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ، وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ، عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا الإنسان/15 – 19.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” وقوله تعالى: ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ) أي: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة ( مُخَلَّدُونَ ) أي: على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن…
وقوله: ( إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ) أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا. ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن ” انتهى. “تفسير ابن كثير” (8 / 292).
والله أعلم.