سمعت مقطعا صوتيا لأحد المشايخ يذكر فيه أن الإمام إذا قام لركعة خامسة لتركه الفاتحة في إحدى الركعات لزم المأمومين متابعته، وإذا لم يتابعه المأمومين فله أن يكلمهم ويأمرهم بالقيام لمتابعته، وأريد أن أسأل: أولا: ما هو التقعيد السابق المذكور في بداية المقطع وذلك لكي تتضح لنا المسألة أكثر . ثانيا: هل من دليل من الكتاب او السنة على فعل الإمام بأن يقوم بركعة خامسة لأنه نسي الفاتحة في الركعة الأولى ؟ ثالثا: إذا قام الإمام لركعة خامسة وتبعه المأمومون فسيصبحوا صلوا خمس ركعات صحيحة ، فهل تصح صلاتهم مع زيادة الركعة الخامسة وهم عالمين وعامدين . بارك الله في علمكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
الحمد لله.
أولا:
إذا قام الإمام إلى ركعة خامسة في الصلاة الرباعية، أو ركعة رابعة في الصلاة الثلاثية، أو ركعة ثالثة في الصلاة الثنائية، فلا يخلو من حالين:
-أن يكون ذلك على سبيل السهو والخطأ، فتطبق عليه الأحكام المتعلقة بالسهو في الصلاة، وقد سبق تفصيل الأحكام المتعلقة به في جواب السؤال: (214323 ).
-أو متعمدًا لتدارك نقص حصل في الصلاة، كأن يتذكر أنه لم يقرأ فاتحة الكتاب في أحد الركعات السابقة، أو لم يطمئن في ركوعه أو سجوده، ونحو ذلك، وسبق بيان أحكامه في جواب السؤال: (136493)
ثانيًا:
في حال الغاء الركعة الناقصة، وإلزام الإمام بركعة جديدة عوضًا عنها؛ فهل - إذا قام الإمام للإتيان بهذه الركعة الزائدة - يتابعه المأمومون، مع جهلهم بسبب قيامه؟
الذي عليه جمهور العلماء أن المأموم لا يتابع الإمام في قيامه للركعة الزائدة، سواءٌ كان قيامه لها سهوًا، أو جبرًا لنقصٍ حصل في الصلاة؛ بل يلزمه مفارقته، أو انتظاره ريثما يجلس للتشهد وينصرف معه.
والسبب في ذلك: أن صلاة المأموم تامة لا نقص فيها، فلا مسوغ له لزيادة ركعة خامسة في الصلاة الرباعية.
قال النووي: "لو قام وأتى بركعة خامسة، فإنه لا يتابعه حملًا على أنه ترك ركنًا من ركعة؛ لأنه لو تحقق الحال هناك [يعني: لو تأكد أن الإمام ترك ركنا] لم يجز متابعته، لأن المأموم أتم صلاته يقينا"، انتهى من "روضة الطالبين" (1/313)، وينظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/15).
وهذا هو اختيار الشيخ ابن عثيمين، حيث قال: "لكن أحيانا يقوم الإمام إلى خامسة، فيسبح به المأمومين، ولكنه يمضي، بناء على أنه نسي الفاتحة في إحدى الركعات، ومعلوم أنه إذا نسي الفاتحة في إحدى الركعات، قامت الثانية مقامها، ثم الثالثة مقام الثانية، ثم الرابعة مقام الثالثة، حينئذ لا بد أن يأتي بركعة.
في هذه الحال وعلى هذا التقدير نقول: إن المأمومين يجلسون ينتظرون الإمام، ثم يسلمون معه، ولهم في هذه الحال أن ينفصلوا ويسلموا". انتهى من "فتاوى نور على الدرب".
وذهب المالكية في المشهور من المذهب إلى أن المأموم إذا علم، أو غلب على ظنه، أن قيام الإمام للخامسة، عوض عن ركعة فاتته، فإنه يتبعه فيها. ينظر: "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/60).
قال ابن جزي: "فَإِن كَانَ قِيَامه لموجِب، كإلغاء ركعة يجب قَضَاؤُهَا؛ فَمن أَيقَن بِالْمُوجِبِ أَو شكّ فِيهِ: وَجب عَلَيْهِ اتِّبَاعه، فَإِن لم يتبعهُ بطلت صلَاته، وَمن أَيقَن بِعَدَمِهِ لم يجز لَهُ اتِّبَاعه، فَإِن اتبعه بطلت". انتهى من "القوانين الفقهية" (ص: 53)
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد كما في الإنصاف (4/15)، واختاره بعض المعاصرين كالشيخ ابن باز، وعليه فتوى اللجنة الدائمة (7/ 133) حيث جاء فيها:
"وأما من علم أن الصلاة لم تتم، أو شك في تمامها ونقصها: فإن عليه متابعة الإمام ليُتِم صلاته معه". وينظر: "فتاوى اللجنة الدائمة" (6/23)
وما ذهب له جمهور العلماء أقرب وأظهر، إذ لا نقص في صلاة المأموم، ولا مسوغ لأن يزيد في صلاته ركعة خامسة متعمدًا، فإن الله فرضها عليه أربع ركعات، لا خمسا.
ثالثًا:
على القول بوجوب متابعة الإمام في هذه الصورة التي قام الإمام فيها لإكمال النقص في صلاته، هل للإمام أن يُكلِّم المأمومين ويأمرهم بالمتابعة؟
الذي عليه جمهور العلماء تحريم الكلام في الصلاة مطلقًا، وأن من تعمد الكلام في الصلاة بطلت صلاته.
ويدل على هذا عموم قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)، رواه مسلم.
وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: (كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ)، متفق عليه.
قال النووي: "فيه تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيهٍ، أو إذنٍ لداخل ونحوه، سبَّح إن كان رجلاً، وصفَّقت إن كانت امرأة.
هذا مذهبنا، ومذهب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم والجمهور من السلف والخلف".
ورخص بعض العلماء في الكلام في الصلاة، إذا كان لمصلحتها، كما هو الحال في صورة المسألة، فيشير للمأمومين بالقيام ليعلموا جزمه وعدم نسيانه، فإن لم تُفهم إشارته، جاز أن يتكلم فيقول: قوموا أو نحوا من ذلك.
وهو قول الإمام الأوزاعي، ورواية عن الإمام مالك هي المشهور في المذهب، ورواية عن الإمام أحمد.
ينظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" (1/240)، "الإنصاف" (4/35)، "فتح الباري" لابن رجب (6/471).
وحجة من أجاز الكلام في الصلاة لمصلحتها: حديث ذي اليدين، حيث تكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم، وذو اليدين، والصحابة، وقد كانوا في الصلاة.
قال الحافظ في الفتح: "واستُدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها.
وتُعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا"، انتهى.
وأما كلام الصحابة معه، فقد كان " كلامهم جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم، وجوابه لا يقطع الصلاة ". ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/102)
قال الإمام أحمد: "إنَّمَا كَلَّمَ الْقَوْمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَلَّمَهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُجِيبُوهُ". انتهى من "المغني" (2/449).
قال ابن قدامة: "وَلَمْ أَعْلَمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ، وَلَا عَنْ الْإِمَامِ: نَصًّا فِي الْكَلَامِ، فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي سَلَّمَ فِيهَا مُعْتَقِدًا تَمَامَ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ السَّلَامِ .
وَقِيَاسُ الْكَلَامِ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ، عَالِمًا بِهَا، عَلَى هَذِهِ الْحَالِ: مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَالُ نِسْيَانٍ، غَيْرُ مُمْكِنٍ التَّحَرُّزُ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا، وَهِيَ أَيْضًا حَالٌ يَتَطَرَّقُ الْجَهْلُ إلَى صَاحِبِهَا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِيهَا، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ مَا يُفَارِقُهَا فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهَا، وَلَا نَصَّ فِيهَا، وَإِذَا عُدِمَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ وَالْإِجْمَاعُ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ". انتهى من "المغني" (2/450)
وقال الشيخ ابن عثيمين:" والجواب عن ذلك: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم حين تكلَّم لم يكن يعلم أنه في صلاة، بل كان يظنُّ أنَّ الصَّلاةَ تمَّت، ولهذا قال: (لم أنسَ ولم تُقصرْ)، ولما قالوا: صدق ذو اليدين، أو قالوا: نعم، لم يتكلَّم بعدُ، بل تقدَّم وصَلَّى ما تَرَكَ.
وفَرْقٌ بين شخص يعلَمُ أنه في صلاة، ولكن يتكلَّم لمصلحة الصَّلاةِ، وشخص لم يتيقَّن أنه في صلاة، بل كان ظنُّه أنه ليس في صلاة، وأنَّ صلاتَه تمَّت، وحينئذٍ فلا يتمُّ الاستدلال بهذا الحديث". انتهى من "الشرح الممتع" (3/85).
وإذا تبين أن الاستدلال بحديث ذي اليدين على إباحة الكلام في الصلاة لمصلحتها فيه نقاش وبحث، يبقى التمسك بعموم الأحاديث في منع الكلام في الصلاة، أحوط، واقرب إلى السلامة، إن شاء الله. وهي لم تفرق بين أن يكون الكلام لمصلحة الصلاة أو لا.
وقد شُرع لمن نابه شيءٌ في الصلاة: التسبيح، ولو كان الكلام مباحًا لمصلحتها لكان أسهل وأبين. ينظر: "المجموع" (4/85).
قال الشيخ ابن عثيمين: "ولأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمرنا بالتَّسبيحِ، ولو كان الخطابُ لمصلحة الصَّلاةِ لا يضرُّ، لكان يأمر به؛ لأنه أقربُ إلى الفهم وحصول المقصود من التسبيح، فلما عَدَلَ عنه، عُلِمَ أن ذلك ليس بجائز؛ لأن المصلحةَ تقتضيه لولا أنه ممتنع". انتهى من "الشرح الممتع" (3/85).
على أن المسألة ليست من القطعيات، ولا هي من مواضع الإنكار، لأن الأجوبة المذكورة عن حديث "ذي اليدين" هي من قبيل الاستظهار، والاختيار، وليس فيها جواب قاطع عن دلالة القصة؛ حتى قرر الحافظ العلائي – وهو شافعي ، مذهبه متفق على البطلان في هذه الصورة؛ قرر في موطنين ، من بحثه لحديث ذي اليدين : صعوبة الجواب عن هذه القصة ؛ فقال مرة : " والجواب عنهما عسر ؛ فإن ذا اليدين تكلم بعد علمه بالنسخ " !!
ثم قال بعد ذكر أحاديث أخرى ، سوى قصة ذي اليدين : " فالانفصال حينئذ ، عن هذه الأحاديث : مُشْكِل، لمن يقول ببطلان الصلاة " . اهـ
وقد حكى ذلك أيضا عن بعض أصحاب النبي صلى عليه وسلم ، فقها له ، نقله عن أبي الدرداء ، وابن الزبير.
ينظر : "نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" (268-280) .
وينظر أيضا: "مجموع الفتاوى"، لشيخ الإسلام (21/160-165).
والحاصل:
أن الذي يترجح هو ما عليه جمهور العلماء من عدم متابعة الإمام في قيامه للركعة الزائدة، سواء قام لها الإمام سهوًا، أو تداركًا لركنٍ فات في ركعة سابقة.
وأن الأقرب والأحوط: أنه ليس للإمام أن يتكلم في الصلاة مطلقًا، ولو كان لحاجة أو مصلحة تتعلق بالصلاة.
وأما ما ذُكر في ذلك المقطع من قيام الإمام للركعة الخامسة تداركا للركعة التي ترك فيها فاتحة الكتاب، ومتابعة المأمومين له في ذلك، وكلامه معهم وأمره لهم بمتابعته: فهو تصرفٌ صحيحٌ وفق مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره جمع من أهل العلم، ولا يُنكر على من أخذ بهذا القول؛ لتعارض الأدلة فيها، ولأن لكل حجة يتمسك به، وقائل معتبر من أهل العلم الذين يصح تقليدهم، والأخذ بقولهم. وقد سبقت الفتوى بهذا القول في الموقع، كما في جواب السؤال: (144502).
والله أعلم.