الحمد لله.
القنوت في الوتر سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف أهل العلم في مواضع فيه ، من ذلك مسألتان وردتا في السؤال :
المسألة الأولى : في التكبير قبل القنوت .
وصورة المسألة : إذا انتهى المصلي من القراءة ، سواء كان إماما أم منفردا ، وأراد أن يقنت قبل الركوع ، فهل يكبر قبل القنوت ثم يقنت ثم يكبر للركوع ، أم أنه يبدأ في القنوت فور انتهاءه من القراءة دون تكبير ؟
وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم ، والخلاف فيها سائغ .
وقد صح ذلك عن بعض الصحابة والتابعين ، ومن هؤلاء :
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (4959) ، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7033) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1375) ، من طريق مُخَارِقٍ ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، ( أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْفَجْرَ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ ، ثُمَّ قَنَتَ ، ثُمَّ كَبَّرَ ، ثُمَّ رَكَعَ ).
وإسناده صحيح .
علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4960) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (7100) ، من طريق الثوري عن ، عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، أَنَّ عَلِيًّا، ( كَبَّرَ حِينَ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ ثُمَّ كَبَّرَ حِينَ يَرْكَعُ ) .
وإسناده حسن لغيره لأجل عبد الأعلى بن عامر ، قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (3/451) :" وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ". انتهى ، وقال ابن حجر في "التقريب" (3731) :" صدوق يهم " . انتهى
وهو هنا لم ينفرد ، حيث له شاهد أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (7040) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي :( َنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقُنُوتَ بِالتَّكْبِيرِ ) .
وهو ضعيف أيضا لأجل الحارث الأعور ، وعنعنة أبي إسحاق ، إلا أنه يقوي الطريق السابق ، فهو حسن لغيره إن شاء الله .
البراء بن عازب رضي الله عنه .
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (4961) ، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7036) ، من طريق مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي الْجَهْمِ، عَنِ الْبَرَاءِ، ( َنَّهُ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ فَكَبَّرَ حِينَ فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ ، وَكَبَّرَ حِينَ رَكَعَ ).
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، إلا أنه لا يصح عنه .
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6948) من طريق لَيْثٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، ( كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ ثُمَّ قَنَتَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقُنُوتِ ، كَبَّرَ ثُمَّ رَكَعَ ).
وإساده ضعيف لأجل " ليث بن أبي سليم " ، قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/75) :" واتفق العلماء على ضعفه، واضطراب حديثه، واختلال ضبطه " انتهى .
ومن التابعين إبراهيم النخعي كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (6949) ، والحكم وحماد وأبي إسحاق ، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (6952)
وهو قول الحنفية ، ورواية عن الإمام أحمد .
قال الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/273) :" ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالثةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُمَا ثُمَّ يَقْنُتُ.
أَمَّا التَّكْبِيرُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَقَنَتَ ".انتهى
وقال ابن قدامة في "المغني" (2/121) :" وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقُنُوتِ ". انتهى
وبناء على ما سبق : فمن قنت قبل الركوع ، وكبر قبل قنوته : لم ينكر عليه ، بل هو فعل سائغ ، سبقه إلى غير واحد من السلف وأهل العلم ، كما سبق .
وإذا كان الإمام ، أو المصلي الذي يفعل ذلك : حنفي المذهب ؛ فهو مقلد حينئذ لأبي حنيفة في ذلك ، وهذا غاية ما يلزمه ، ولا حرج عليه فيه .
المسألة الثانية : عدم الجهر بدعاء القنوت
ذكر السائل أن الإمام بعدما كبر للقنوت سكت ، وهنا نقول : إن الظاهر من فعل هذا الإمام : أنه لم يسكت ، غايته أنه لم يجهر بالدعاء .
وهذه أيضا من مسائل الخلاف ، وهو قول الحنفية .
قال السرخسي في "المبسوط" (1/166) :" وَالِاخْتِيَارُ الْإِخْفَاءُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ( خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ ) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ وَالْقَوْمُ يُؤَمِّنُونَ ، عَلَى قِيَاسِ الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ ". انتهى
وقال الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/274) :" وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا ، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ : الْإِخْفَاءَ في دُعَاءِ الْقُنُوتِ ، في حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جميعا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) الأعراف/55 ، وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم :( خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ ) " انتهى .
وهذان الأمران – الإسرار بالقنوت، وكونه قبل الركوع - : هما أيضا مذهب المالكية في المسألة.
قال خليل في مختصره المشهور : " ( وَقُنُوتٌ سِرًّا ، بِصُبْحٍ فَقَطْ ، وَقَبْلَ الرُّكُوعِ ) .
قال الحطاب في شرحه :
" يَعْنِي أَنَّ الْقُنُوتَ مُسْتَحَبٌّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ...
وَقَالَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ: الْقُنُوتُ عِنْدَنَا فَضِيلَةٌ ، بِلَا خِلَافٍ أَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ ...
وَقَوْلُهُ: سِرًّا، يَعْنِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْقُنُوتِ : الْإِسْرَارُ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَقِيلَ: إنَّهُ يُجْهَرُ بِهِ ... " انتهى مختصرا من "مواهب الجليل" (1/539) .
وبناء على ما سبق :
فإن هذا الإمام يغلب على الظن أنه كبر قبل القنوت ، ثم لم يجهر في دعاءه ، وكلا الفعلين مذهب الحنفية ، وهي من مسائل الخلاف السائغ .
أما إن كبر قبل القنوت ، ثم صمت ، ولم يتكلم مطلقا ، لا سرا ولا جهرا ؛ فهذا هو الذي لا أصل له .
والله أعلم .