الحمد لله.
أولا :
هذان الأثران ضعيفان :
فأما الأول : عن عمر بنِ الخطاب : " مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو طريق لَم يصل معَ الإمام " .
عزا تخريجه الحافظ ابن رجب إلى أبي بكر غلام الخلال ، فقال :
روى ليثُ بنُ أبي سليمٍ، عَن نعيم بنِ أبي هندٍ، قالَ: قالَ عمر بنِ الخطاب : "مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو طريق لَم يصل معَ الإمام " خرجه أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ الشافي" . " انتهى من "فتح الباري لابن رجب" (6/298) .
وهذا الأثر ضعيف بهذا الإسناد لسببين :
الأول : ضعف ليث بن أبي سليم .
قال ابن حجر عنه : "اختلط جدا ، ولم يتميز حديثه : فترك" انتهى من "تقريب التهذيب" ص (464) .
الثاني : انقطاعه ؛ لأن نعيم بن أبي هند لم يسمع من عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال الألباني رحمه الله :
"الانقطاع بين نعيم بن أبي هند وعمر بن الخطاب : إن أكثر حديثه عن التابعين، ولم يذكروا له رواية عن أحد من الصحابة غير أبيه، مات سنة 110ه" انتهى من "السلسلة الضعيفة" (12/178) .
وأما الأثر الثاني : عن عَائِشَةَ أنها قَالَتْ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ" .
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (1577) عن الشافعي مرسلا .
ثم عقب عليه بقوله " لم يذكر إسناده في الجديد ، وذكره في القديم ، وهو فيما أنبأني أبو عبد الله إجازة ، أن أبا الوليد أخبرهم قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، والمؤمل قالا : حدثنا الزعفراني ، عن الشافعي قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة ، " أن نسوة صلين في حجرتها ، فقالت : لا تصلين بصلاة الإمام ؛ فإنكن في حجاب " .
وقال ابن رجب الحنبلي عن استدلال الشافعي بهذا الأثر :
"واستدلَّ بقول عائشة -مِن غير إسناد-، وتوقف في صحته عنها.
وذكره بإسناده في رواية الزعفراني، فقالَ: حدثنا إبراهيم بنِ محمد، عَن ليثٍ، عَن عطاء، عَن عائشة، أن نسوةً صلْين في حجرتها، فقالت: لا تصلِّين بصلاة الإمام؛ فإنكنَّ في حجابٍ.
وهذا إسناد ضعيفٌ، ولذلك توقف الشَافِعي في صحته " انتهى من "فتح الباري" (6/300) .
وقال الطريفي :
"وإسناده لا يصح، إبراهيم متهم" انتهى من "التحجيل" ص(90) .
ثانيا :
قول السائل : هل يستفاد منهما أنه لا ينبغي للنساء الصلاة في المصليات المغلقة ؟
فالجواب عنه من جهتين :
الأولى :
لا يمكن الاقتصار على هذين الأثرين للحكم على هذه المسألة :
أولا : لضعف الأثرين كما سبق.
وثانيا : لأنه لا يمكن النظر إلى الآثار المانعة ، وإهمال الآثار الأخرى المجيزة .
فهذه المسألة فيها آثار كثيرة ، منها ما هو دال على المنع وأخرى دالة على الجواز ، وليس فيها نصح صحيح صريح مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك اختلف أهل العلم فيها .
قال الشيخ الألباني رحمه الله
"قد روى ابن أبي شيبة في المصنف آثارا في المنع من ذلك .
وأخرى في الرخصة فيه ، وهذه أكثر وأصح" انتهى من "إرواء الغليل" (2/330) .
ولذلك بوب البخاري في صحيحه : " بَابُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ ، وَقَالَ الحَسَنُ: "لاَ بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ" وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: "يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ جِدَارٌ ، إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإِمَامِ" .
ثم استدل بائتمام الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في حجرته يرون شخصه إذا قام ، لقصر جدار الحجرة .
قال الحافظ ابن رجب :
" مرادُ البخاري بهذا الباب: أنَّهُ يجوز اقتداء المأمومِ بالإمام، وإن كانَ بينهما طريق أو نهر، أو كانَ بينهما جدار يمنع المأموم مِن رؤية إمامه ، إذا سمع تكبيره " انتهى من "فتح الباري" (6/279) .
وقال ابن حجر :
" قَوْلُهُ : ( بَابُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ" ) .
أَيْ : هَلْ يَضُرُّ ذَلِك بالاقتداء ؟
وَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ خِلَافٍ شَهِيرٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ " انتهى من "فتح الباري" (2/214) .
الثاني :
هذان الأثران إنما هما فيمن اقتدى بالإمام ، وهو خارج المسجد ، فلا يصح الاستدلال بهما على المصليات النسائية ، لأنها ليست خارج المسجد ، بل هي منه ، وإن كانت مغلقة ، منفصلة عن مصلى الرجال .
قال النووي رحمه الله : "للإمام والمأموم في المكان ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكونا في مسجد فيصح الاقتداء ، سواء قربت المسافة بينهما ، أم بعدت لكبر المسجد ، وسواء اتحد البناء أم اختلف ، كصحن المسجد ، وصُفَّتِه ، وسرداب فيه ، مع سطحه وساحته ، والمنارة التي هي من المسجد : تصح الصلاة في كل هذه الصور وما أشبهها ، إذا عَلم صلاة الإمام ، ولم يتقدم عليه ، سواء كان أعلى منه أو أسفل .
ولا خلاف في هذا. ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين...إلخ" انتهى من "المجموع" (4/195) .
وقال المرداوي في "الإنصاف" (2/293) : "... فإن كان المأموم في المسجد : فلا يشترط اتصال الصفوف ، بلا خلاف . قاله الآمدي ، وحكاه المجد إجماعاً" انتهى .
وقد سئل الشيخ لابن عثيمين رحمه الله: ما حكم صلاة النساء في المساجد التي لا يرين فيها الإمام ولا المأمومين ، وإنما يسمعن الصوت فقط ؟
فأجاب : "يجوز للمرأة ، وللرجل أيضا : أن يصلي مع الجماعة في المسجد ، وإن لم ير الإمام ولا المأمومين ، إذا أمكن الاقتداء .
فإذا كان الصوت يبلغ النساء في مكانهن من المسجد ، ويمكنهن أن يقتدين بالإمام : فإنه يصح أن يصلين الجماعة مع الإمام ؛ لأن المكان واحد ، والاقتداء ممكن سوء كان عن طريق مكبر الصوت ، أو عن طريق مباشر بصوت الإمام نفسه ، أو بصوت المبلغ عنه .
ولا يضر إذا كن لا يرين الإمام ولا المأمومين .
وإنما اشترط بعض العلماء رؤية الإمام أو المأمومين : فيما إذا كان الذي يصلي خارج المسجد، فإن الفقهاء يقولون : يصح اقتداء المأموم الذي خارج المسجد إن رأى الإمام أو المأمومين . على أن القول الراجح عندي : أنه لا يصح للمأموم أن يقتدي بالإمام في غير المسجد ، وإن رأى الإمامُ المأمومَ ، إذا كان في المسجد مكان يمكنه أن يصلي فيه . وذلك لأن المقصود بالجماعة الاتفاق في المكان ، وفي الأفعال .
أما لو امتلأ المسجد ، وصار من كان خارج المسجد يصلي مع الإمام ، ويمكنه المتابعة : فإن الراجح جواز متابعته للإمام ، وائتمامه به ؛ سواء رأى الإمام أم لم يره ، إذا كانت الصفوف متصلة " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (15/213).
وينظر جواب السؤال (238922) .
والله أعلم .