الحمد لله.
أولاً:
خرص النخيل والعنب ونحوهما ، هو : أن ينظر الخارص إلى الرطب ، والعنب ، فيُقدر : كم يجيء محصول هذه الشجرة ، بالكيل ، بعدما يجف ، ويصير تمرا أو زبيبا .
فيرسل الإمام الخارصين ؛ ليقدروا على أصحاب المزارع ما يجب عليهم من الزكوات .
قال أبو السعادات ابن الأثير: "خَرَصَ النَّخْلَةَ والكَرْمة ، يَخْرُصُهَا خَرْصاً: إِذَا حَزَرَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الرُّطب تَمْرا ، وَمِنَ الْعِنَبِ زَبِيبًا، فَهُوَ مِنَ الْخَرْصِ: الظَّنِّ؛ لِأَنَّ الحَزْر إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ بِظَنٍّ " انتهى من "النهاية لابن الأثير" (2/22)
ثانيا :
من العلماء من يُشدّد في التصرف في الثمار قبل الخرص ، بالأكل أو البيع ونحوه ، ويمنع من ذلك .
ومنهم من يرخّص في ذلك ، بل يرى أن للمالك منها ثلث الغلة ، أو ربعها ، يتوسع بها هو وعياله ويهدي منها .
ومنهم من يرى أن ما يُترك له ليس ليتوسع بها على نفسه وعياله ، بل لينظر بها أهل الزكاة الذين يعرفهم من أقاربه وجيرانه ونحو ذلك .
والذي يظهر :
أنه إذا لم يكن الحاكم يرسل من يخرص على أهل المزارع مزارعهم ، فإن صاحب الثمرة يأتي بخارص أمين ، معروف بخبرته ، فيخرص له ثمرته .
فإن احتاج إلى أكل أو هدية ، ولم يتيسر له خارص : فإنه يجتهد في تقدير ثمرته بنفسه ، ويقيسها على ما اعتاده قبل ذلك ، فيقرب ذلك باجتهاده ، ويترك لنفسه الثلث أو الربع ، من المال فلا تلزمه فيه الزكاة ، ثم تحسب الزكاة على ثلثي المحصول ، أو ثلاثة أرباعه .
وأما ما باعه .. فإن كان باعه بعد بدو صلاحه – كما هو الغالب – فعليه زكاته ، فيضيف مقدار ما باعه على الثمرة الموجودة عند الجذاذ ، ويزكي الجميع ، أو يخرج زكاة ما باعه نقودا ، كلما باع شيئا ، أخرج عشر الثمن ، أو نصف عشره ، حسب الواجب عليه في الزكاة .
قال ابن قدامة :
"ويصح تصرف المالك في النصاب قبل الخرص ، وبعده ، بالبيع والهبة وغيرهما . فإن باعه أو وهبه بعد بدو صلاحه ، فصدقته على البائع والواهب... وإنما وجبت على البائع ؛ لأنها كانت واجبة عليه قبل البيع فبقي على ما كان عليه" انتهى من "المغني" (3/13) .
وقال أيضا :
"وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع ، توسعة على أرباب الأموال ؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ، ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم . ويكون في الثمرة السقاطة ، وينتابها الطير وتأكل منه المارة ، فلو استوفى الكل منهم أضر بهم . وبهذا قال إسحاق ، ونحوه قال الليث ، وأبو عبيد .
والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده ، فإن رأي الأكلة كثيرا ترك الثلث ، وإن كانوا قليلا ترك الربع ؛ لما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه أبو عبيد، وأبو داود، والنسائي ، والترمذي.
وروى أبو عبيد ، بإسناده عن مكحول ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال : (خففوا على الناس ، فإن في المال العرية والواطئة والأكلة ).
قال أبو عبيد : الواطئة : السابلة سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين .
والأَكَلة : أرباب الثمار وأهلوهم ، ومن لصق بهم ...
والعرية : النخلة أو النخلات يهب إنسانا ثمرتها ، فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ليس في العرايا صدقة) .
وروى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لسهل بن أبي حثمة : "إذا أتيت على نخل قد حضرها قوم ، فدع لهم ما يأكلون "
والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء .
فإن لم يترك لهم الخارص شيئا ، فلهم الأكل بقدر ذلك ، ولا يحتسب عليهم به ، نصّ عليه [ يعني الإمام أحمد] ؛ لأنه حق لهم .
فإن لم يخرج الإمام خارصا ، فاحتاج رب المال إلى التصرف في الثمرة ، فأخرج خارصا ، جاز أن يأخذ بقدر ذلك ، ذكره القاضي ، وإن خرص هو وأخذ بقدر ذلك جاز ، ويحتاط في أن لا يأخذ أكثر مما له أخذه " انتهى من "المغني" (3/16) .
وقال المرداوي : " إذا لم يبعث الإمام ساعيا ، فعلى رب المال من الخرص ما يفعله الساعي ، ليعرف قدر الواجب قبل أن يتصرف ، لأنه مستخلف فيه ، ولو ترك الساعي شيئا من الواجب ، أخرجه المالك ، نص عليه " انتهى من الإنصاف (3/111) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (25/57) :
"وأمر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَارِصِينَ أَنْ يَدَعُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ ، لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ ، وَيَقُولُ: (إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : (فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والوطية وَالسَّابِلَةَ) ، يَعْنِي : أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَتَبَرَّعُ بِمَا يُعَرِّيهِ مِنْ النَّخْلِ لِمَنْ يَأْكُلُهُ ، وَعَلَيْهِ ضَيْفٌ يَطَئُونَ حَدِيقَتَهُ يُطْعِمُهُمْ ، وَيُطْعِمُ السَّابِلَةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ .
وَهَذَا الْإِسْقَاطُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ" انتهى.
وجاء في "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" رحمه الله (4/38) :
"يجب على ولي الأمر أن يحرض الذين يتولون الخرص على عدم الظلم والزيادة ؛ بل يجب أن يترك في الخرص لأرب المال : الثلث أو الربع ، لحديث سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه الخمسة إلا ابن ماجه . وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الشرع جاء بهذا : توسعة على رب المال ، لأكله هو وأضيافه وجيرانه ... " انتهى .
وقال أيضا (4/39) عمن استدل بالحديث السابق على أن الاستقصاء في الخرص مخالف للسنة ، قال : "ما ذكره صحيح لا إشكال فيه ، والحديث الذي استدل به جار على قواعد الشريعة ومحاسنها .
وذلك : لأن الثمار ينوبها أشياء ، من أكل وهدية وصدقة ، وغير ذلك مما جرت به العادة في كل زمان ومكان ، فجاءت السنة بالتخفيف عن صاحب السمرة ، وأن يترك له من ثمرته مقدار ما ذكره .
واتباع السنة في هذا وغيره هو المتعين على ولاة الأمر أن يفعلوه بأنفسهم ، وأن يحملوا الرعية عليه " انتهى .
والحاصل :
أن الوالي إن كان يبعث من يخرص على الناس ثمارهم : فالواجب على الخارص ألا يستقصي في خرصه ، وأن يرفق بهم ، ولا يظلمهم ، ويدع لهم شيئا من ثمرهم ، الثلث ، أو الربع ، بحسب الحال ، توسعة عليهم وعلى أهليهم .
فإن لم يبعث الإمام خارصا : اجتهد صاحب الثمر في الخارص الأمين ، يخرص له ثمره .
فإن احتاج إلى أكل أو هدية ، قبل الخرص ، أو لم يتيسر له الخارص : فله أن يقدر ثمرته باجتهاده ، ويجعل ما يأكله أو يهديه ، من الثلث الذي وسع عليه فيه .
والله أعلم .