كيف يكون الجمع بين حديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال في الأول فيما معناه: (كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل)، والحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه (من مات دون عرضه فهو شهيد)، وقوله أيضا في قتال الخوارج: ( لأقتلنهم قتل عاد) هل هناك تعارض بين الحديث الأول والحديثين الباقيين؟ وما السبيل للجمع بين الأحاديث؟
الحمد لله.
لا تعارض بين النصوص ، سواء بين آية وآية ، أو بين آية وحديث ، أو بين حديث وحديث ، إذ إن الكل وحي من الله تعالى .
وأما ما أورده السائل من الأحاديث الثلاثة فلا تعارض بينها البتة ولله الحمد ، حيث إن كل حديث يتنزل على أمر وموضع يختلف عن موضع الحديث الآخر ، وبيان ذلك كما يلي :
أما الحديث الأول :
فقد أخرجه الترمذي في "سننه" (1421)، والنسائي في "سننه" (4094) ، وأحمد في "مسنده" (1652) ، من حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).
والحديث صحيح ، صححه ابن الملقن في "البدر المنير" (9/7) ، والشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (708) .
وقد روى البخاري في "صحيحه" (2480) ، ومسلم في "صحيحه" (141) جزءا منه ، وهو ما رواه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).
ونحوه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (140) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ).
والحديث يدل على أنه إذا اعتُدي على نفس المسلم أو ماله أو عرضه ، فإنه يُشرع له أن يقاتل عن نفسه وماله وعرضه ، فإن قُتل فهو شهيد .
والمقاتلة دون المال: جائزة غير واجبة، بخلاف المقاتلة دون العرض فإنها واجبة، ولا تسقط مع القدرة عليها بحال، وأما المقاتلة عن النفس بقتل الصائل ففي وجوبها خلاف.
قال النووي رحمه الله ، في شرحه لحديث :( من قتل دون ماله فهو شهيد ) :
" فِيهِ جَوَازُ قَتْلِ الْقَاصِدِ لِأَخْذِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا أو كثيرا لعموم الحديث ، وهذا قول الجماهير من الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ : لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إِذَا طَلَبَ شَيْئًا يَسِيرًا ، كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجَمَاهِيرُ.
وَأَمَّا الْمُدَافَعَةُ عَنِ الْحَرِيمِ : فَوَاجِبَةٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَفِي الْمُدَافَعَةِ عَنِ النَّفْسِ بِالْقَتْلِ : خِلَافٌ فِي مَذْهَبنَا وَمَذْهَبِ غَيْرِنَا .
وَالْمُدَافَعَةُ عَنِ الْمَالِ جَائِزَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ". انتهى، "شرح صحيح مسلم" (2/165).
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/319) :" وَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِينَ - الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ - قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمِنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ .
وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلُ" ، وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْمَالَ جَازَ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بالْقِتَال قُوتِلَ، وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ، وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ: جَازَ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ - مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ ، وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ ، وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ"انتهى.
الحديث الثاني :
الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (21064) ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (283) ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ ، قَالَ: " دَخَلُوا قَرْيَةً ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّابٍ ، ذَعِرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ؟ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي. قَالُوا: أَنْتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ ، حَدِيثًا يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُنَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ، قَالَ: " فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ ، فَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ ، قَالَ أَيُّوبُ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ : وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْقَاتِلَ ". قَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ".
والحديث صحيح بشواهده ، وقد صحح إسناده ابن حجر في "فتح الباري" (12/279) ، وقال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (8/103) :" ورجاله ثقات غير الرجل الذى لم يسم ".
وقد روي نحوه عند أبي يعلى في "مسنده" (1523) ، من طريق جُنْدُب بْن سُفْيَانَ ، قَالَ: إِنِّي لَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حِينَ جَاءَهُ بَشِيرٌ مِنْ سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا ، فَأَخْبَرَهُ بِنَصْرِ اللَّهِ الَّذِي نَصَرَ سَرِيَّتَهُ ، وَبِفَتْحِ اللَّهِ الَّذِي فَتَحَ لَهُمْ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ ، وَزَادَ فِيهِ :
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عِنْدَ ذَلِكَ :
( سَتَكُونُ بَعْدِي فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ تصْدِمُ كَصَدْمِ الْحَيَّاتِ ، وَفُحُولِ الثِّيرَانِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُسْلِمًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي فِيهَا مُسْلِمًا ، وَيُصْبِحُ كَافِرًا) . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (ادْخُلُوا بُيُوتَكُمْ وَأَخْمِلُوا ذِكْرَكُمْ ) .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِنَا فِي بَيْتِهِ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِيُمْسِكْ بِيَدِهِ ، وَلْيَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا يَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ فِي قُبَّةِ الْإِسْلَامِ، فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ ، وَيَسْفِكُ دَمَهُ ، وَيْعِصي رَبَّهُ ، وَيَكْفُرُ بِخَالِقِهِ ، وَتَجِبُ لَهُ جَهَنَّمُ).
وفي إسناده شهر بن حوشب ، وفي حفظه مقال ، إلا أنه يتقوى بما قبله كما قال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (8/104) :" وهذا إسناد جيد بالذي قبله، فإن شهرا إنما نخشى منه سوء الحفظ، ومتابعة ذلك الرجل القيسي إياه دليل على أنه قد حفظ " انتهى.
وجاء في معنى ذلك عدة أحاديث :
منها : ما أخرجه أحمد في "مسنده" (19730) ، وأبو داود في "سننه" (4259) ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا. الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي. فَاكْسِرُوا قِسِيَّكُمْ ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمُ الْحِجَارَةَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ بَيْتَهُ ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ ).
والحديث صححه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (8/144)
ومنها : ما أخرجه أبو داود في "سننه" (4261) ، وأحمد في "مسنده" (21325) ، وابن حبان في "صحيحه" (5960) ، من حديث عن أبي ذرٍّ ، قال: قال لي رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم-:( يا أبا ذرِّ) ، قلتُ: لبيكَ يا رسولَ الله وسَعْديك ، فذكرَ الحديثَ ، قال فيه: (كيفَ أنتَ إذا أصابَ الناسَ مَوتٌ يكونُ البيتُ فيه بالوصِيفِ؟) يعني القبرَ، قلت: اللهُ ورسولُه أعلمُ -أو قال: ما خَارَ اللهُ لي ورسولُه- قال: (عليكَ بالصَّبرِ) ، أو قال: (تَصبِرُ)، ثم قال لي: (يا أبا ذرِّ ، قلت: لبيكَ وسعديكَ)، قال: (كيفَ أنت إذا رأيتَ أحجارَ الزيتِ قد غَرِقَتْ بالدَّمِ؟) قلتُ: ما خارَ اللهُ لي ورسولُه ، قال: (عليك بمَنْ أنتَ منه).
قلتُ: يا رسولَ الله أفلا آخُذُ سيفي، فأضعَه على عاتقي؟ قال: (شاركتَ القومَ إذَنْ).
قلتُ: فما تأمرُني؟ قال: (تلزمُ بيتَكَ).
قلت: فإن دُخِلَ عليَّ بيتي؟ قال: (فإن خَشِيتَ أن يبهَرَك شُعَاعُ السَّيفِ ، فألقِ ثوبَكَ على وجهِكَ، يبوءُ بإثمكَ وإثمهِ).
وهذا الحديث ، وما في معناه : إنما موضعه عند وقوع الفتن العامة في الناس ؛ مثل أن يكون القتال على الدنيا والملك ، أو عندما يُشكل على المسلم أمر الناس ، وما وقع بينهم ، وما اختلفوا فيه ، واقتتلوا عليه ، فلا يعلم أين الحق من الباطل ، ثم يجيء من يقاتله في تلك الفتنة ، أو يحاربه فيها بتأويل له فيها ؛ فهنا يجوز للإنسان أن يستسلم ولا يدفع عن نفسه ، استدلالا بهذا الحديث .
قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص233) :" قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".
ثُمَّ رُوِّيتُمْ "كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لَكُمْ – يَا بَنِي آدَمَ - مَثَلًا ، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا ، وَدَعُوا شَرَّهُمَا ".
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابن قتيبة :
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ حَدِيثٍ مَوْضِعًا ، غَيْرَ مَوْضِعِ الْآخَرِ ، فَإِذَا وُضِعَا بِمَوْضِعَيْهِمَا ، زَالَ الِاخْتِلَافُ.
لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " : مَنْ قَاتَلَ اللُّصُوصَ عَنْ مَالِهِ ، حَتَّى يُقْتَلَ فِي مَنْزِلِهِ ، وَفِي أَسْفَاره . وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ:" إِذَا رَأَيْتَ سَوَادًا فِي مَنْزِلِكَ ، فَلَا تَكُنْ أَجْبَنَ السَّوَادَيْنِ ".
يُرِيدُ: تَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ:" كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ " .
أَيِ: افْعَلْ هَذَا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَى التَّأْوِيلِ ، وَتَنَازُعِ سُلْطَانَيْنِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْأَمْرَ، وَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ بِحُجَّةٍ . يَقُولُ: فَكُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَلَا تَسُلَّ سَيْفًا ، وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ الْمُحِقُّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَمَنِ الْمُبْطِلُ ، وَاجْعَلْ دَمَكَ دُونَ دِينِكَ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَالَ:" الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ" انتهى.
وقد أخرج مسلم في "صحيحه" (2887) ، حديثا في هذا المعنى من طريق عثمان الشحام ، قَالَ: " انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ ، إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ فِي أَرْضِهِ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ فِي الْفِتَنِ حَدِيثًا؟ قَالَ: نَعَمْ ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدِّثُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا. أَلَا ، فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ) .
قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ : أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: (يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ : أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ ، أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ: (يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ).
قال النووي في "شرح مسلم" (18/10) في شرحه لهذا الحديث :
" وَهَذَا الْحَدِيثُ ، وَالْأَحَادِيثُ قَبْلَهُ وبعده : مما يحتج به من لا يرى الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَدْ اخْتَلَفَ العلماء في قتال الفتنة:
فقالت طائفة : لا يقاتل فِي فِتَنِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَيْتَهُ وَطَلَبُوا قَتْلَهُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُدَافَعَةُ عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الطَّالِبَ مُتَأَوِّلٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي بَكْرَةَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ ابن عُمَرَ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وغيرهما : لا يدخل فِيهَا ، لَكِنْ إِنْ قُصِدَ، دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ .
فَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ فِتَنِ الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَعَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ : يَجِبُ نَصْرُ الْمُحِقِّ فِي الْفِتَنِ ، وَالْقِيَامُ مَعَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْبَاغِينَ ، كَمَا قَالَ تعالى: ( فقاتلوا التي تبغى الْآيَةَ ) .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَتُتَأَوَّلُ الْأَحَادِيثُ : عَلَى مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ المُحِقُّ ، أَوْ عَلَى طائفتين ظالمتين لا تأويل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .
وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، لَظَهَرَ الْفَسَادُ وَاسْتَطَالَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَالْمُبْطِلُونَ ". انتهى
وقال الخطابي في "معالم السنن" (4/336) :" وإذا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شهيداً ، فقد دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو عن أهله أو دينه ، إذا أريد على شيء منها ، فأتي القتلُ عليه : كان مأجوراً فيه ، نائلاً به منازل الشهداء.
وقد كره ذلك قوم زعموا أن الواجب عليه أن يستسلم ولا يقاتل عن نفسه ، وذهبوا في ذلك إلى أحاديث رويت في ترك القتال في الفتن ، وفي الخروج على الأئمة ؟
وليس هذا من ذلك في شيء ، إنما جاء هذا في قتال اللصوص وقطاع الطريق ، وأهل البغي والساعين في الأرض بالفساد ، ومن دخل في معناهم من أهل العَيْث والإفساد ". انتهى
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/319) :" وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ : جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِتْنَةٌ ، مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ ؛ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرِ ، وَجَرَى السَّيْفُ ، أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ ، أَوْ يَسْتَسْلِمُ فَلَا يُقَاتِلُ فِيهَا؟
عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ". انتهى
وقال ابن القيم في "عدة الصابرين" (ص32) :
" ومن الصبر المحظور : صبر الإنسان على ما يَقصد هلاكَه ، من سبع أو حيات أو حريق أو ماء ، أو كافر يريد قتله .
بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين ؛ فإنه مباح له ، بل يستحب ، كما دلت عليه النصوص الكثيرة ، وقد سئل النبي عن هذه المسألة بعينها فقال: كن كخير ابني آدم . وفي لفظ : كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل . وفي لفظ : دعه يبوء بإثمه وإثمك . وفي لفظ آخر : فإن بهرك شعاع السيف فضع يدك على وجهك ". انتهى
وقال ابن حجر في "فتح الباري" (13/31) :" وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ : مَا يَنْشَأُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ ، حَيْثُ لَا يُعْلَمُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ ... " وينظر بطوله ، وما نقله عن الطبري في حكاية الخلاف في ذلك .
وقال البهوتي في "كشاف القناع" (6/155):
" ( وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ ) لِلصَّائِلِ (عَنْ نِسَائِهِ : فَهُوَ لَازِمٌ)، أَيْ وَاجِبٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّهِ ، وَحَقٍّ اللَّهِ ، وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ الْفَاحِشَةِ .
( وَإِنْ كَانَ ) الدَّفْعُ (عَنْ نَفْسِهِ، فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ: فَكَذَلِكَ)؛ أَيْ : فَالدَّفْعُ لَازِمٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة/195.
وَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ : يَحْرُمُ عَلَيْهِ إبَاحَةُ قَتْلِهَا .
وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يَتَّقِي بِهِ ؛ كَالْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ .
فَإِنْ كَانَ فِي فِتْنَةٍ : لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّفْعُ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِتْنَةِ: ( اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ، فَإِنْ خِفْتَ أَنْ يَبهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ : فَغَطِّ وَجْهَكَ ) ، وَفِي لَفْظٍ : ( فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ) ". انتهى.
الحديث الثالث:
أخرجه البخاري في "صحيحه" (3344) ، ومسلم في "صحيحه" (1064) ، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: " بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَرْبَعَةِ ، الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ ثُمَّ المُجَاشِعِيِّ ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزَارِيِّ ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ العَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ .
فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ ، وَيَدَعُنَا ؟
قَالَ:" إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ ".
فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ ، نَاتِئُ الجَبِينِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ !!
فَقَالَ: (مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ؟ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، فَلاَ تَأْمَنُونِي ؟!)
فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ ، - أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ – فَمَنَعَهُ .
فَلَمَّا وَلَّى ، قَالَ: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا ، أَوْ: فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ).
وهذا الحديث وارد في قتال الخوارج ممن يكفرون المسلمين بالكبائر، ويستحلون دماءهم .
وهؤلاء لهم حالتان :
الأولى :
أن يخرجوا على المسلمين بالسيف ، ويسفكوا الدم الحرام ، فيجب قتالهم حينئذ بالإجماع .
قال ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (226): " وأجمعوا على أن قتال الخارجين حلال ، إذا سفكوا الدماء وأباحوا الحرام" انتهى.
الثانية :
أن يعتقدوا اعتقاد الخوارج ، دون أن يخرجوا على المسلمين بالسلاح ، فهنا : هل يُقاتَلون لمجرد اعتقادهم وبدعتهم أم لا ؟ محل خلاف بين أهل العلم ، والراجح أنهم لا يُقاتَلون إلا إذا سفكوا الدم الحرام .
قال القرطبي في "المفهم" (3/111) :" وقد توقف في تكفيرهم كثير من العلماء، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" فيتمارى في الفُوق " ، وهذا يقضي بأنه يُشَك في أمرهم، فيُتوقف فيهم ، وكأن القول الأول أظهر في الحديث .
فعلى القول بتكفيرهم: يُقاتَلون ويُقتلون ، وتُسبى أموالُهم ، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج .
وعلى قول من لا يكفرهم : لا يُجْهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم ، ولا يُقتل أسراهم ، ولا تستباح أموالهم .
وكل هذا إذا خالفوا المسلمين ، وشقّوا عصاهم ، ونصبوا راية الحرب .
فأما من استتر ببدعته منهم ، ولم ينصب راية الحرب ، ولم يخرج عن الجماعة : فهل يُقتل بعد الاستتابة ، أو لا يقتل ، وإنما يجتهد في ردّ بدعته ، وردّه عنها ؟
اختُلف في ذلك .
وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله : أن باب التكفير باب خطير ، أقدم عليه كثير من الناس ، فسقطوا ، وتوقف فيه الفحول ، فسلموا ، ولا نعدل بالسلامة شيئًا " . انتهى.
ومما يقوي القول بأنهم لا يقتلون إلا إذا سفكوا الدم الحرام : أنهم لما كفّروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة : لم يقاتلهم علي رضي الله عنه ابتداءً ، بل قال لهم :" بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ : أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا ، أَوْ تَقْطَعُوا سَبِيلًا ، أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً !!
فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ، فَقَدْ نَبَذْنَا إِلَيْكُمِ الْحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ".
رواه أحمد في "مسنده" (656) من حديث عبد الله بن شداد وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/568)، والشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (2459) .
قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/374) مستدلا بهذا الأثر :" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْخِلَافِ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ قِتَالَ مَنْ خَالَفَهُ ". انتهى.
فتبين مما سبق أنه لا تعارض بين الأحاديث الثلاثة ، وأن لكل حديث منها موضعًا يعمل به فيه.
والله أعلم.