الحمد لله.
أولًا:
قراءة القرآن إنما تؤخذ بالتلقي، فلا يجوز لأحد أن يقرأ إلا ما تعلمه الآخر عن الأول، لأن القراءة سنة متبعة .
قال أبو عبيد: "وإنما نرى القراء عرضوا القراءة على أهل المعرفة بها ، ثم تمسكوا بما علموا منها؛ مخافة أن يَزيغوا عما بين اللوحين بزيادة أو نقصان .
ولذا تركوا سائر القراءات التي تخالف الكتاب، ولم يلتفتوا إلى مذاهب العربية فيها ، إذا خالف ذلك خط المصحف، وإن كانت العربية فيه أظهر بيانا من الخط .
ورأوا تتبع حروف المصاحف، وحفظها ؛ كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها". انتهى من "فضائل القرآن" (361).
وقال الأزهري: " وجائز في العربية أن تقول: لَا رَيْبٌ فيه، ولكن لا يجوز القراءة بها، لأن القراءة سنة مُتبَعة " انتهى من "معاني القرآن"(1/ 122).
ويقول ابن جني: " فأما الآن : فلا عذر لأحد أن يرتجل قراءة وإن سوغتها العربية، من حيث كانت القراءة سُنة متَّبعة " انتهى من "المحتسب"(1/ 292).
وقال الداني: " وأئمة القراءة : لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصحّ في النقل .
والرواية إذا ثبتت : لا يردّها قياس عربية، ولا فشوّ لغة؛ لأن القراءة سنّة متّبعة ؛ يلزم قبولها ، والمصير إليها " انتهى من "جامع البيان"(2/ 860).
ومن ذلك يتبين الغلط الفاحش في قولك : " لاقتناعي بها " ؛ فإن القراءة ليست بالاقتناع والنظر؛ وإنما هي بالنقل الثَّبْت ، والأثر ؛ فما قرأ به الناس ، وأقرأك به شيوخك الذين تلقيت عنهم ، إن كنت صاحب قراءة : فاقرأ به . وحسبك .
وما لم تقرأ به على شيخ ، ولم يقرأ به أهل العلم والضبط والإتقان : فإياك ، وإياه ، أن تزيغ من حيث أردت الاجتهاد ، أو تضل عن سنن القراءة ، وأنت تحسب أنك من المجتهدين !!
ثانيًا:
قرأ يعقوب برواية روح وزيد أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولَهُ ، بالنصب مثل قراءة الحسن. وقرأ الباقون وَرَسُولُهُ بالرفع.
"المبسوط" (225) .
أما قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر: 25-26]، فقد قرأ الكسائي ويعقوب بفتح الذال والثاء.
وقرأ الباقون لا يعذبولا يوثق بكسر الذال والثاء.
انظر: "المبسوط" لابن مهران: (471)، و"النشر"(2/ 400).
لكن ..
هناك فرق بين من يقرأ القرآن لنفسه إما في الصلاة أو خارجها ، وبين من يصلي إماما للناس في الصلاة .
فالأول : هو الذي قد يُتساهل في حقه ، فقد رخص له بعض العلماء أن يدخل قراءةً في الأخرى ، بشرط أن يكون عالما بالقراءات ، وأن لا يؤدي ذلك إلى التلاعب بكلام الله عز وجل وتحريفه، كما لو قرأ كلمة من الأية بقراءةٍ ، وكلمةً أخرى بقراءة أخرى ، وكان لا يصح الجمع بينهما من حيث المعنى أو قواعد اللغة العربية .
يقول الإمام ابن الجزري في تفصيل هذه المسألة:
" إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى : فالمنع من ذلك منع تحريم، كمن يقرأ فتلقى آدم من ربه كلمات بالرفع فيهما، أو بالنصب آخذا رفع آدم من قراءة غير ابن كثير ، ورفع كلمات من قراءة ابن كثير، ونحو وكفلها زكريا بالتشديد مع الرفع، أو عكس ذلك، ونحو أخذ ميثاقكم وشبهه مما يركب بما لا تجيزه العربية ولا يصح في اللغة .
وأما ما لم يكن كذلك ؛ فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرها :
فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية، فإنه لا يجوز أيضًا من حيث إنه كذب في الرواية ، وتخليط على أهل الدراية .
وإن لم يكن على سبيل النقل، بل على سبيل القراءة والتلاوة : فإنه جائز صحيح مقبول ، لا منع منه ولا حظر .
وإن كنا نعيبه على أئمة القراءات العارفين باختلاف الروايات ، من وجه تساوي العلماء بالعوام ، لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام، إذ كل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين تخفيفا عن الأمة، وتهوينًا على أهل هذه الملة، فلو أوجبنا عليهم قراءة كل رواية على حدة لشق عليهم تمييز القراءة الواحدة وانعكس المقصود من التخفيف وعاد بالسهولة إلى التكليف " انتهى من "النشر"(1/ 19).
على أن بعض العلماء منع من إدخال القراءات بعضها في بعض مطلقًا .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"عَنْ " جَمْعِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ " هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ؟ وَهَلْ جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِجَامِعِهَا مَزِيَّةُ ثَوَابٍ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةِ أَمْ لَا؟ .
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا نَفْسُ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَحِفْظِهَا فَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ ، فَمَعْرِفَةُ الْقِرَاءَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا ، أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ وَقَدْ أقرئوا بِهَا سُنَّةٌ. وَالْعَارِفُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْحَافِظُ لَهَا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفْ إلَّا قِرَاءَةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، وَأَمَّا جَمْعُهَا لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالدَّرْسِ فَهُوَ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَعَلَهُ طَوَائِفُ فِي الْقِرَاءَةِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ والتابعون فلم يكونوا يجمعون . والله أعلم" انتهى من"مجموع الفتاوى" (13/404) ، "الفتاوى الكبرى" (1/54) .
وأما الثاني وهو الذي يصلي إماما بعوام الناس ، فينبغي له أن يقرأ القراءة التي يعرفها المأمومون ، حتى لا يكون سببا للتشويش عليهم وإثارة النزاعات والخلافات ، أو إنكار بعض من لا علم له بالقراءات، ما قرأ به القارئ، مما هو ثابت ، نازل من عند الله رب العالمين ؛ ولا ريب أن التحرز من هذه المفسدة أمر له اعتباره، وجمع القلوب مقصد من مقاصد الشريعة المعتبرة.
فعَنْ جُنْدَبٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اْخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ رواه البخاري (5061)، ومسلم (2667).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "كان اختلاف الصحابة يقع في القراءات واللغات، فأمروا بالقيام عند الاختلاف لئلا يجحد أحدهم ما يقرأ الآخر فيكون جاحدا لما أنزله الله عز وجل." انتهى، من "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/47).
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
هل يجوز قراءة القرآن في الصلاة برواية ورش، علما بأنا تداولنا القراءة برواية حفص عن عاصم؟
فأجابوا : "القراءة برواية ورش عن نافع صحيحة معتبرة في نفسها لدى علماء القراءات، لكن القراءة بها لمن لم يعهدها، بل عهد غيرها - كالقراءة برواية حفص مثلا - تثير بلبلة في نفوس المأمومين، فتترك القراءة بها لذلك، أما إذا كان القارئ بها في صلاته منفردا فيجوز؛ لعدم المانع" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/26) .
وينظر السؤال رقم :(192182) .
والله أعلم