الحمد لله.
أولا :
لا يجب على الولد أن يحج أو يصوم النذر عن أبيه ، وإنما ذلك مستحب .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على وليه، بظاهر الأخبار الواردة فيه.
وجمهور أهل العلم على أن ذلك ليس بواجب على الولي، إلا أن يكون حقا في المال، ويكون للميت تركة .
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا : محمول على الندب والاستحباب، بدليل قرائن في الخبر :
منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين، وقضاء الدين على الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركة يقضى بها .
ومنها : أن السائل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل يفعل ذلك أم لا؟ .
وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله، فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة، فالأمر في جوابه يقتضي الإباحة، وإن كان السؤال عن الإجزاء، فأمره يقتضي الإجزاء، كقولهم: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: صلوا في مرابض الغنم . وإن كان سؤالهم عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب، كقولهم: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: توضئوا من لحوم الإبل .
وسؤال السائل في مسألتنا كان عن الإجزاء، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل يقتضيه لا غير." انتهى من "المغني" (10/29) .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم : (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رواه البخاري (1952) ، ومسلم (1147) .
قال : "فلو قال قائل : إن قوله صلى الله عليه وسلم : (صام عنه وليه) أمر ، فما الذي صرفه عن الوجوب؟
فالجواب: صرفه عن الوجوب قوله تعالى : وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] ؛ ولو قلنا: بوجوب قضاء الصوم عن الميت لزم من عدم قضائه أن تحمل وازرة وزر أخرى، وهذا خلاف ما جاء به القرآن" انتهى من "الشرح الممتع" (6/450) .
لكن لو توفي الأب وعليه حج نذر، فيستحب لوليه قضاؤه عنه .
فإن لم يحج عنه ، وكان الميت قد خلّف تركة : وجب أن يُخرج من تركته مالٌ ليُحَج به عنه ، وهو مذهب الشافعي وأحمد ، وهو الصواب . لورود الأحاديث الصحيحة بذلك .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : نعم حجي عنها ، أرأيتِ لو كان على أمك ديْن أكنتِ قاضيته ، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري (1754) .
قال في "حاشية الروض المربع" :
"استحب لوليه حج النذر عنه، وهو مذهب الشافعي، لصريح خبر ابن عباس...
قال في الفروع: ومن اعتذر عن ترك القول بذلك هنا، أو في الصوم، باضطراب الأخبار، فهو عذر باطل، لصحة ذلك عن أئمة الحديث" انتهى .
وقال ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري" (4/ 66): "وفيه أن من مات وعليه حج : وجب على وليه أن يُجهز من يحج عنه من رأس ماله ، كما أن عليه قضاء ديونه .
فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال ، فكذلك ما شُبه به في القضاء .
ويلتحق بالحج : كلُّ حق ثبت في ذمته ، من كفارة ، أو نذر ، أو زكاة ، أو غير ذلك" انتهى.
ثانيا :
وأما قضاء نذر الصوم عن الميت ، فقد جاء ذلك صريحا في بعض الأحاديث الصحيحة .عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :
جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟
قَالَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا ؟
قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ : فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ
رواه البخاري (1953) ، ومسلم (1148) .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" فصل: فأما صوم النذر : فيفعله الولي عنه .
وهذا قول ابن عباس، والليث، وأبي عبيد، وأبي ثور.
وقال سائر من ذكرنا من الفقهاء: يطعم عنه؛ لما ذكرنا في صوم رمضان.
ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها قبل هذا، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالاتباع، وفيها غنية عن كل قول .
والفرق بين النذر وغيره : أن النيابة تدخل العبادة ، بحسب خفتها، والنذر أخف حكما؛ لكونه لم يجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه الناذر على نفسه.
إذا ثبت هذا، فإن الصوم ليس بواجب على الولي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين، ولا يجب على الولي قضاء دين الميت، وإنما يتعلق بتركته إن كانت له تركة، فإن لم يكن له تركة، فلا شيء على وارثه .
لكن يستحب أن يقضى عنه، لتفريغ ذمته، وفك رهانه، كذلك هاهنا، ولا يختص ذلك بالولي .
بل كل من صام عنه : قضى ذلك عنه، وأجزأ؛ لأنه تبرع، فأشبه قضاء الدين عنه" انتهى من "المغني" (3/153) .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"يستحب لوليه أن يقضيه ، فإن لم يفعل ، قلنا : أطعم عن كل يوم مسكينا ، قياسا على صوم الفريضة" انتهى من "الشرح الممتع" (6/450) .
ثالثا :
وأما نذر الاعتكاف والصلاة : فالخلاف في ذلك قوي بين أهل العلم ، والجمهور على أنه لا يقضى شيء من ذلك عن الميت ، خلافا للحنابلة في ذلك .
ينظر : "المغني" لابن قدامة (10/28-29) ، "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/334) .
قال الشيخ ابن عثيمين :
"الميت إذا مات فإنه لا يقضى عنه شيء من العبادات، إلا ما جاء به النص ، والنص جاء بقضاء الحج عنه ، وقضاء الصوم...
وأما الصلاة : فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقضائها ، فإذا مات الإنسان وعليه صلوات لم يصلها ، فإنها لا تقضى عنه ، ولا يُطعم عنه بدلا عن الصلاة ، لأن ذلك لم يرد ، والعبادات توقيفية ، إذا لم ترد عن الشرع ، فليس لنا أن نشرع منها شيئا" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (17/476) بترقيم الشاملة.
والله أعلم .