الحمد لله.
أولا:
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 172) ، والبيهقي في "الشعب" (1/ 146) ، والدينوري في "المجالسة" (2/ 187) من طريق عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ؛ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: " الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ، بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ " .
ورواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 181) من طريق معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن علي به .
ورواه سعيد بن منصور في "سننه" (6/ 77) عنِ القاسم بن الوليد الهمداني، عن داود بن أبي عمرة عن عليّ.
ورواه وكيع في "الزهد" (ص: 450) حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عُمَرُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عن علي .
ورواه ابن عساكر في "تاريخه" (42/ 511) من طريق إبراهيم بن عبد الله عن عليّ.
ورواه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (4/ 924) من طريق مُحَمَّد بْن زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عَلِيٍّ به.
ولا يخلو إسناد من هذه الأسانيد من مقال ، وعامتها مراسيل ، لكن الظاهر أنه ينجبر الأثر بتعدد طرقه ، وقد ذكره غير واحد من أهل العلم، محتجا به ، منهم: سفيان بن عيينة ، كما في "تفسير ابن كثير (6/372)، وابن عبد البر ، كما في "بهجة المجالس" (ص 250)، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (10/ 40)، وابن القيم ، كما في "عدة الصابرين" (ص: 95)، وغيرهم .
وقال الألباني في "ضعيف الجامع" (3535):
" ضعيف جدا مرفوعا، وضعيف موقوفا " .
ثانيا :
على القول بثبوت هذا الأثر عن عليّ رضي الله عنه ، فتحريره من وجهين :
الوجه الأول:
أنه ربما يكون قد استمده من قول الله تعالى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ السجدة/24 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" قَالَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ: قَرَأَ أَبِي عَلَى عَمِّي -أَوْ: عَمِّي عَلَى أَبِي -سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ، بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ " ؟
قال: " أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) ، لَمَّا أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ، صَارُوا رُؤُوسًا " انتهى .
وهذا من دقيق الفهم لكتاب الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ، فَمَنْ أُعْطِيَ الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ: جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا فِي الدِّينِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (6/ 215) .
الوجه الثاني:
أن الصبر داخل في كل مسائل الدين، فكان من الدين بمنزلة الرأس من الجسد.
قال ابن بطال رحمه الله :
" قال الشعبى: قال على بن أبى طالب: " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد " .
قال الطبرى: " وصدق عليّ، وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، فمن لم يصبر على العمل بشرائع ، لم يستحق اسم الإيمان بالإطلاق، والصبر على العمل بالشرائع ، نظير الرأس من جسد الإنسان الذى لا تمام له إلا به " .
انتهى من "شرح صحيح البخارى" (9/ 284) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
" قالوا : الصبر يدخل في كل باب، بل في كل مسألة من مسائل الدين، ولهذا كان من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد " انتهى من "عدة الصابرين" (ص: 111) .
وقال الصنعاني رحمه الله :
" (بمنزلة الرأس من الجسد) : فكأن الإيمان جسم ورأس وجسد، وقد علم أن الرأس هو عمدة حياة الإنسان، وأنه إذا ذهب ، ذهب البدن، وإذا تغير ، تغير، وذلك لأن الصبر داخل في كل باب من أبواب الدين " انتهى من "التنوير" (7/ 58) .
وأنواع الصبر ثلاثة : صبر على طاعة الله ، وصبر عن معصية الله ، وصبر على أقدار الله، ومن ثَمّ: كان الصبر داخلا في كل مسائل الدين، فصار من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فمن انتفى عنه الصبر كله ، انتفى عنه الإيمان ، كما تنتفي الحياة عن البدن، إذا فقد الرأس.
والله تعالى أعلم.