الحمد لله.
أولا:
ذكر الله تعالى قصة يونس عليه السلام في مواضع من كتابه، وبين أن الحوت التقمه، وأنه كان في الظلمات، في بطن الحوت.
قال تعالى: إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ الصافات/ 139- 146 .
ومعنى "التقمه" في لغة العرب: ابتلعه.
قال في القاموس المحيط، ص1158: "والْتَقَمَه: ابْتَلَعَه" انتهى.
وقال في "تاج العروس" (33/ 430) : "(والتقمه) التقاما: (ابتلعه) في مهلة" انتهى.
على أن من أهل اللغة من قال : إن اللقم وضع اللقمة في الفم دون بلع .
وهذا ليس تفسيرا للقم في الآية ، فإن غايته أن يكون وجها في بيان معن "اللقم" في اللغة، وهذا لا ينافي تفسير "اللقم" في الآية ، بأنه ابتلعه في بطنه؛ فإنه لم يبتلعه في بطنه، حتى "التقمه" بفمه، أولا.
والمعتمد في خصوص تفسير الآية ، أنه استقر في "بطنه" ، حتى على القول بأن "اللقم" هو مجرد الوضع في الفم ، كما دلت عليه الآية بعد ذلك ، ونصت عليه السنة ، من أن يونس استقر في بطن الحوت.
وعلى هذا سار المفسرون.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره (21/ 107): "وقوله ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ) يقول: فابتلعه الحوت; وهو افتعل من اللَّقْم...
( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، يوم يبعث الله فيه خلقه محبوسا، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجَّاه" انتهى.
وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 552): "ومعنى التقمه: ابتلعه...
وفي قَدْر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال:
أحدها: أربعون يوماً، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي.
والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء.
والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة.
والرابع: عشرون يوماً، قاله الضحاك.
والخامس: بعض يوم، التقمة ضُحىً، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي" انتهى.
ومما يؤكد أن "التقم" بمعنى ابتلع، قوله تعالى: (للبث في بطنه) ؛ وهذا نص قاطع بأن يونس عليه السلام استقر في بطن الحوت.
وقد جاء هذا منصوصا عليه في السنة كذلك.
روى الترمذي (3505)، وأحمد (1462) عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْوَةُ ذِي النُّونِ ، إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ .
والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيق المسند، والألباني في "صحيح الترمذي"، وهو صريح في أن يونس عليه السلام كان في بطن الحوت، لا في فمه.
وهذا المعنى أكده أيضا قوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الأنبياء/87 .
فلو كان في فم الحوت، لما كان في ظلمة تامة؛ لأن الحوت يفتح فمه ويغلقه.
قال الماوردي في تفسيره (3/ 466): " فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ فيه قولان: أحدهما: أنها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة جوف الحوت، قاله ابن عباس , وقتادة.
الثاني: أنها ظلمة الحوت في بطن الحوت ، قاله سالم بن أبي الجعد" انتهى.
وأما رد المعنى الظاهر، المتفق عليه بين المفسرين، بأنه لو كان في بطنه لهلك، فهذا من العجب! فهل هلك إبراهيم عليه السلام ، لما ألقي في النار؟ أو تراه يكذب بإلقاء الخليل في النيران؟ فأي ذلك كان من أمره، فهو عظيم شنيع؟
إن جوز أن يلقى إبراهيم عليه السلام، في النار، ويخرج منها، من غير أن يهلك، كما هو نص الكتاب المبين، والسنة الصريحة، ومعتقد المسلمين عامة؛ فما يمنع أن يكون يونس في بطن الحوت، ولم يهلك؟
فأي استبعاد لكون يونس عليه السلام يبقى في بطن الحوت فلا يضره ذلك! وتكون هذه معجزة ليونس عليه السلام ، كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، معجزة له ، وآية على نبوته؟!
ومعلوم أن الأسباب تتخلف عن مسبباتها بإذن الله تعالى.
وهل البحث عن حوت يتنفس الأوكسجين، والزعم بأن يونس كان في فمه، إلا هروب من إثبات المعجزة الخارقة للعادة؟!
ثانيا:
لم نجد فيما ورد عند أهل الكتاب أن الذي نبت على يونس عليه السلام: العنب.
والمذكور عندهم اليقطين، لكن ليس بعد خروج يونس من الحوت مباشرة، بل بعد خروجه وذهابه إلى قومه، ثم خروجه من المدينة مغضبا.
ففي سفر يونان، الإصحاح الرابع: "6 فَأَعَدَّ الرَّبُّ الإِلهُ يَقْطِينَةً فَارْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلًا عَلَى رَأْسِهِ، لِكَيْ يُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ فَرَحًا عَظِيمًا".
وهذا من تحريفهم ولا شك.
ثالثا:
المنقول عن أهل الكتاب له ثلاث حالات، سبق بيانها في جواب السؤال رقم : (22289) .
رابعا:
الكلام في الإعجاز العلمي له ضوابط لابد من مراعاتها، وقد سبق بيان ذلك في أجوبة عديدة.
ينظر: جواب السؤال رقم : (138144) ، ورقم : (244217) .
والحاصل أن الرسالة المذكورة باطلة لا يجوز نشرها، لمخالفتها نص القرآن ، وصريح السنة ، مع ما تواردت عليه أقوال أهل اللغة والتفسير.
ولما يوهمه من إنكار المعجزة ، التي هي خرق للعادة وتعطيل للأسباب.
والله أعلم.