الحمد لله.
لا يلزم الورثة تنفيذ وصية الميت إلا إذا ثبتت بالبينة.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) رواه البخاري (4552) ، ومسلم (1711)، وعند البيهقي في "السنن الكبرى" (21 / 242 - 243) ( وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ )، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (8 / 266)، وقال بعد ذكره لإسناده:
" وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير الحسن بن سهل، وهو ثقة...
وله شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: ( المدعى عليه أولى باليمين، إلا أن تقوم بينة )، أخرجه الدارقطنى (517) من طريق سنان بن الحارث بن مصرف عن طلحة بن مصرف عن مجاهد عنه.
قلت: وهذا إسناد جيد فى الشواهد ... " انتهى.
وهذا ما اتفق عليه أهل العلم.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" وقد أجمع أهل العلم على أن البينة على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه، ومعنى قوله: ( البينة على المدَّعي ): يعني يستحق بها ما ادعاه " انتهى من"الإشراف" (4 / 212).
والبينة التي تثبت به الوصية ، هي :
1- الإشهاد، بأن يُشهد عليها رجلين عدلين مسلمين –إن أمكن- . فإن لم يجد مسلمين ، جاز أن يشهد غير مسلمين ، لقول الله تعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ) المائدة/106.
2- الكتابة.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ) رواه البخاري (2738) ، ومسلم (1627).
فإذا اجتمع مع الكتابة الإشهاد فهي أقوى البيّنات.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" ويستحب أن يكتب الموصي وصيته، ويشهد عليها؛ لأنه أحفظ لها، وأحوط لما فيها " انتهى من"المغني" (8 / 472).
وإما إن كانت الكتابة عارية عن الإشهاد؛ ففي ثبوت الوصية بذلك خلاف بين أهل العلم، فمذهب الحنابلة أنها تثبت بها الوصية، إذا عرف أن الكتاب هو بخط الموصي .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" مسألة؛ قال -أي الخرقي-: (ومن كتب وصية، ولم يشهد فيها، حكم بها، ما لم يُعلم رجوعه عنها).
نص أحمد على هذا، في رواية إسحاق بن إبراهيم، فقال: "من مات، فوجدت وصيته مكتوبة عند رأسه، ولم يُشهد فيها، وعُرف خطه، وكان مشهور الخط: يُقبل ما فيها "...
ووجه قول الخرقي، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده ) ولم يذكر شهادة...
ولأن الوصية يُتسامح فيها، ولهذا صح تعليقها على الخطر والغرر... فجاز أن يُتسامح فيها بقبول الخط، كرواية الحديث " انتهى من "المغني" (8 / 470).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وتنفذ الوصية بالخط المعروف ، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإمام أحمد " انتهى من"الفتاوى الكبرى" (5 / 439).
ومذهب الشافعية أن الكتابة وحدها بدون إشهاد لا تثبت بها الوصية.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ) فمعناه مكتوبة وقد أشهد عليه بها، لا أنه يقتصر على الكتابة ، بل لا يعمل بها ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (11 / 76).
فإذا كانت البيّنة مختلفا فيها؛ لكن أقر بها جميع الورثة وكانوا بالغين راشدين؛ ثبتت بذلك الوصية؛ فإن اختلفوا أو كان بينهم من ليس راشدا، فإن القضية ترفع إلى القضاء للفصل فيها.
والله أعلم.