الحمد لله.
قال أبو إسماعيل الهروي رحمه الله في منازل السائرين: " وحقائق التوبة ثلاثة أشياء: تعظيم الجناية، واتهام التوبة، وطلب أعذار الخليقة" انتهى.
وشرحه ابن القيم في "مدارج السالكين" (1/ 202) بقوله: " فأما تعظيم الجناية فإنه إذا استهان بها لم يندم عليها، وعلى قدر تعظيمها يكون ندمه على ارتكابها، فإن من استهان بإضاعة فلس - مثلا - لم يندم على إضاعته، فإذا علم أنه دينار اشتد ندمه، وعظمت إضاعته عنده.
وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء: تعظيم الأمر، وتعظيم الآمر، والتصديق بالجزاء" انتهى.
وتعظيم الأمر: يكون باستحضار أن تحريم الجناية صادر من الله تعالى، وأن الله بين ذلك في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فيعلم أن هذا التحريم شأنه عظيم، وخطره كبير، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يستهين به.
وتعظيم الآمر: يكون باستحضار عظمة الله تعالى، وأنه الجبار المنتقم، لو شاء أن يؤاخذ الناس بذنوبهم لما ترك على ظهر الأرض من دابة، وأنه سبحانه الملك العظيم القدوس، وأنه الرب الكريم المنعم المتفضل، فلا يليق بالعبد أن يعصيه، ولا أن يستعمل نعمه في مخالفته.
ولهذا قيل: لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
وكلما زاد تعظيم العبد لربه، استحيا منه، وانكفّت نفسه عن معصيته.
والتصديق بالجزاء: أن يوقن العبد بما رتب الله على المعصية من جزاء في الدنيا والآخرة ، كأنه يرى ذلك رأي العين، فيعلم أن جزاءها النار، وأن النار لا يُقدر على حرها، وأن غمسة واحدة فيها تنسيه كل لذة ونعيم في الدنيا، فلا خير في لذة يعقبها النار.
ويعلم أن من جزاء المعصية: الحرمان من القرب من الله تعالى، وما أعظمها من عقوبة.
ومن جزائها: تعسير أمر العاصي، وتنكيد عيشه، وقسوة قلبه، وشعوره بالوحشة، وإصابته بالذل، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: " إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق.
وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القلب ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق" انتهى من "المدارج" (1/ 423).
ومن جزائها: ما قد يلحقه من عذاب عند الموت، وفي القبر، ويوم العرض.
فمن آمن وأيقن بالجزاء المترتب على المعصية، حجزه ذلك عن إتيانها.
فإذا اجتمع في قلبك تعظيم أمر الله ونهيه، والوقوف عند حدوده، والإيمان بعظمته وجلاله، وكرمه وإحسانه، والتصديق بما توعد به أهل المعصية : عظم أمر الجناية في قلبك، وتولد الخوف الحاجز عنها.
وكلما جاهد الإنسان نفسه على ذلك، وتفكّر فيه وتدبر، أورثه النفور من المعصية، والحذر منها، والفرار إلى الله تعالى، فكان في ذلك سعادته ونجاته.
نسأل الله أن يمنّ علينا جميعا بالتوبة والإنابة وتعظيم الأمر والنهي.
والله أعلم.