الحمد لله.
أولا :
الحديث الذي أورده السائل الكريم حديث صحيح متفق عليه .
أخرجه البخاري في "صحيحه" (1006) ، ومسلم في "صحيحه" (675) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ، : " وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ .
زاد مسلم في روايته في لفظ : " ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران/128 " .
وفي لفظ عند مسلم أيضا :" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ ، فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ ، قَالَ: فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا " .
ثانيا :
في هذا الحديث : بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على مضر لما أدبروا عن الإسلام ، وعذبوا أهل الإيمان من المستضعفين ، دعا عليهم أن يصيبهم الله بالجدب والقحط .
وفيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين من المسلمين في مكة .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء بعد ذلك .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه استجابة الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم .
فقد روى البخاري في "صحيحه" (1007) ، ومسلم في "صحيحه" (2798) ، من حديث ابن مسعود ، واللفظ لمسلم ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ جُلُوسًا ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ بَيْنَنَا ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ يَقُصُّ وَيَزْعُمُ ، أَنَّ آيَةَ الدُّخَانِ تَجِيءُ فَتَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ ، وَجَلَسَ وَهُوَ غَضْبَانُ: يَا أَيَّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ ، مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ شَيْئًا ، فَلْيَقُلْ بِمَا يَعْلَمُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أَعْلَمُ ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللهُ أَعْلَمُ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ص/86 ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا ، فَقَالَ:( اللهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ ) قَالَ: فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجُوعِ ، وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ أَحَدُهُمْ فَيَرَى كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا ، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الدخان/11 إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ الدخان/15، قَالَ: أَفَيُكْشَفُ عَذَابُ الْآخِرَةِ؟ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ الدخان/16 ، فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ ، وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ ، وَآيَةُ الرُّومِ ) .
وفي لفظ عند "مسلم" (2798) أيضا : " أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ ، وَحَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا ، فَقَالَ: لِمُضَرَ ! إِنَّكَ لَجَرِيءٌ قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ الدخان/15 قَالَ: فَمُطِرُوا ، فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ ، قَالَ: عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الدخان/11 ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ الدخان/16 ، قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ ".
ففي هذا بيان أن الله تعالى قد أجاب دعاء نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، وأن العذاب بالجدب والقحط قد نزل بهم ، حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع .
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (3/6) :" فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ ، فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الْجُوعِ ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى [الدخان: 15، 16] ، فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَقَدْ مَضَتِ الْبَطْشَةُ والدُّخَانُ ، وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ.
فيه: جواز الدعاء على الكفار بالجوع والجهد وغيره ، قال المهلب: وإنما دعا عليهم بالسبع سنين ، والله أعلم ، إرادة أن يضعفهم بالجوع عن طغيانهم ؛ فإن نفس الجائع أخشع لله ، وأقرب للانقياد والتذلل ، فأجاب الله دعوته وأعلمه أنهم سيعودون بعد أن يرغبوا في رد العذاب عنهم. وفيه: الدعاء على الظالم بالهلاك " انتهى .
ثالثا :
وأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء بعد ذلك ، فيحتمل أنه ترك الدعاء على كفار قريش، وذلك بعد ما نزل قوله تعالى : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران/128
ويدل عليه قوله في رواية "مسلم" (675) :( ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران/128 ).
قال ابن هبيرة في "الإفصاح" (6/120) :" ... ووجهه بعد ذلك أن الله سبحانه لما أنزل عليه ليس لك من الأمر شيء : أي أنك أعلنت من الدعاء عليهم بما قد كفى في معناه ، فإن الكلمة الواحدة منك أعظم قدرًا من قراب الأرض أمثالهم ، فكأنه على معنى الآية الأخرى في قوله سبحانه: وذرني والمكذبين وقوله سبحانه: ذرني ومن خلقت وحيدًا ". انتهى
ويحتمل أنه ترك الدعاء للمستضعفين ، وذلك بعدما نجاهم الله ، وجاءوا إليه .
ويدل عليه قوله في رواية مسلم (675) : "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ ، فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ ، قَالَ: فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا " .
قال العراقي في "طرح التثريب" (2/293) :" وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الدُّعَاءَ لِلْمُسْتَضْعَفَيْنِ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُو لَهُمْ لَا أَصْلَ الْقُنُوتِ ، وَفِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : فَقُلْت أُرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ فَقِيلَ: وَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا ". أَيْ إنَّ الَّذِينَ كَانَ يَدْعُو لَهُمْ بِالنَّجَاةِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ نَجَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ فَكَانُوا بِسَيْفِ الْبَحْرِ يَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا لِقُرَيْشٍ حَتَّى بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ لِيَأْتُوهُ " انتهى .
وعلى كل تقدير :
فليس هناك تعارض بين أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء ، سواء ترك الدعاء مطلقا ، ولم يعد يقنت هذا القنوت ، أو ترك الدعاء للمستضعفين أو غير ذلك = لا تعارض بين ذلك ، وبين أن يكون العذاب قد نزل بالمشركين .
فقد يكون الله قد أعلم نبيه أن الأمر بيد رب العالمين ، من غير حاجة لهذا الدعاء على المشركين ، أو أن ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم قد كفى ، وحصل المقصود منه ، كما سبق في كلام ابن هبيرة ، ويكون الله تعالى قد قدر إجابة الدعاء لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل بالمشركين ما أنزل من العذاب ، ولا تعارض بين الأمرين ، ولا إشكال إن شاء الله .
والله أعلم .