الحمد لله.
أولًا:
من أصول الاعتقاد المقررة المجمع عليها : أن الله تعالى علام الغيوب ، عالم الغيب والشهاد ، عليم خبير، وأنه ـ سبحانه ، عالم بكل ما كان ، وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم ما يكون بعد ذلك ، ما شاء الله ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يخفى شيء من أمر الغيب كله ، سبحانه ، وجل شانه ، وعز سلطانه .
وليس ذلك فقط ، بل يجمع أهل السنة والجماعة أن الله تعالى كتب ما علمه من أمر خلقه ، وما قدره عليهم وقضاه ، في كتاب ، من قبل أن يخلق السماوات والأرض ، وهذا أدل على ثبوت العلم الأزلي له ، سبحانه ، لا يعلم شيئا من أمر خلقه ، لم يكن يعلمه ، ولا يقع شيء في ملكه ، إلا وهو في كتاب من قبل خلق السماوات والأرض .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (49004) ، ورقم : (226710) .
ثانيا :
مع ما تقرر من علم الله تعالى السابق بكل شيء ، من قبل أن يخلقه ، ومن قبل خلق السماوات والأرض ، وكتابته لذلك ؛ فإن المقادير إذا وقعت في كون الله ، فإن الله جل جلاله يعلمها بعد أن تقع ، علما آخر بها ، في حال وجودها ، زائدا على علمها السابق بها، وهي في حال العدم .
فالمذهب الحق في ذلك، أن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده ، مع علمه السابق به قبل وجوده، وأن علمه الثاني والأول ليس واحدا .
وهذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ البقرة/143 ، وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ آل عمران/142، وقوله: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ آل عمران/140 ، وقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ - إلى قوله : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ العنكبوت/3-11، وقوله : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد/31 ، وغيرها.
يقول شيخ الإسلام حول هذه الآيات: "وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله: ( إلَّا لِنَعْلَمَ ) و (حَتَّى نَعْلَمَ )، يتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون، وهذا جهل؛ فإن القرآن قد أخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع .
بل أبلغ من ذلك : أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا، وكتب ذلك، وأخبر بما أخبر به من ذلك قبل أن يكون، وقد أخبر بعلمه المتقدم على وجوه .
ثم لما خلقه : علمه كائنا ، مع علمه الذي تقدم أنه سيكون، فهذا هو الكمال، وبذلك جاء القرآن في غير موضع .
بل وإثبات رؤية الرب له بعد وجوده، كما قال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ التوبة/105 ، فأخبر أنه سيرى أعمالهم ... ".
ثم ذكر شيخ الإسلام أقوال المفسرين في قوله "إِلَّا لِنَعْلَمَ" البقرة/143 ، فقال: " وروى عن ابن عباس في قوله: "إِلَّا لِنَعْلَمَ" ، أي : لنرى، وروي : لنميز .
وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز .
وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودا واقعا ، بعد أن كان قد علم أنه سيكون. ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده .
والحكم للعلم به بعد وجوده ، لأنه يوجب الثواب والعقاب، قال فمعنى قوله : ( إِلَّا لِنَعْلَم ) ، أي : لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب .
ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد .
وهذا كقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ يونس/18، أي بما لم يوجد، فإنه لو وجد ، لعلمه، فعلمه بأنه موجود ، ووجوده : متلازمان، يلزم من ثبوث أحدهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه" .
فالعقل والقرآن يدلان على أن علمه تعالى بالشيء بعد فعله قدر زائد عن العلم الأول . وتسمية ذلك تغيرا أو حلولا لا يمنع من القول به ما دام دالا على الكمال لله تعالى من غير نقص، وما دامت أدلة الكتابة والسنة تعضده .
انظر: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ، للمحمود (3/ 1057).
إذا عرفت ما سبق ظهر لك أنه لا إشكال في الآية ، ولا حاجة لتأويل من تأولها من أهل البدع ، ومن تأثر بكلامهم ، فالآية وأمثالها ظاهرة ، مفهومة ، لا تعارض بينها وبين ما تقرر ورسخ من علم الله السابق بكل شيء .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :
" قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم) الآية .
ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل : أنه تعالى يستفيد بالاختبار ، علما لم يكن يعلمه - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون ، قبل أن يكون .
وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه ، بقوله جل وعلا: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) [3 / 154] ؛ فقوله: (والله عليم بذات الصدور) ، بعد قوله: (ليبتلي) : دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ؛ لأن العليم بذات الصدور ، غني عن الاختبار .
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه .
ومعنى (إلا لنعلم) أي: علما يترتب عليه الثواب والعقاب ؛ فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك.
وفائدة الاختبار : ظهور الأمر للناس.
أما عالم السر والنجوى : فهو عالم بكل ما سيكون ، كما لا يخفى." انتهى من "أضواء البيان" (1/46) . وينظر أيضا : "زاد المعاد" لابن القيم (3/200) .
والله أعلم .