الحمد لله.
حث الإنسان على ترك أثر في هذه الدنيا له وجوه:
الوجه الأول:
أن يترك أثرا يرتبط باسمه ويعرف به عند الناس، فهذا أمر في أصله ليس من مقاصد الشرع التي يحث على تحصيلها، بل مقصد الشرع أن يحقق العبد الإخلاص في جميع أحواله؛ ومن المتقرر أن خفاء الأعمال الصالحة من أعمال التطوعات عن أعين الناس أبلغ في تحصيل الإخلاص وتحقيقه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ... وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ رواه البخاري (660) ومسلم (1031).
وعلى هذا النهج كان السلف الصالح رضوان الله عليهم كما روى الإمام أحمد في "الزهد" (ص 212) عن الْحَسَن رَحِمَهُ اللَّهُ، أنه قَالَ: ( أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا مَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسِرَّ عَمَلًا فَيُعْلِنَهُ، قَدْ عَلِمُوا أَنَّ أَحْرَزَ الْعَمَلَيْنِ مِنَ الشَّيْطَانِ عَمَلُ السِّرِّ ).
ومن هذ االباب ما كان يقوله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
" وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَعَلَّمُوا هَذِهِ الْكُتُبَ، وَلَمْ يَنْسُبُوهَا إِلَيَّ " انتهى. من "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" (5 / 499).
وفي بعض الحالات ربما استحب أن يظهر الإنسان بأعماله إذا كان في هذا الإظهار مصلحة عارضة راجحة كأن يقتدي به غيره ويقدّر ذلك بقدره.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قد يستحب إظهار العمل الصالح ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة.
قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به أو لينتفع به ككتابة العلم…
قال الطبري: كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم، ليقتدى بهم، قال: فمن كان إماما يستن بعمله، عالما بما لله عليه، قاهرا لشيطانه : استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف " انتهى . " فتح الباري " (11 / 337).
الوجه الثاني:
أن يباشر المسلم من الأعمال التي يبقى أثرها مستمرا، بغض النظر عن نسبتها إليها ، واشتهارها بها في الناس ، أو عدم ذلك ؛ فهذا المفهوم صحيح ، ومقصد شرعي مُراعىً؛ لأن من مقاصد الأعمال الصالحة : الاستكثار من الحسنات قدر الاستطاعة.
وقد جعل الله تعالى من الثواب على بعض الأعمال الصالحة، أن أجرها يلحق صاحبها ولو بعد مماته؛ كمثل ما ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ رواه مسلم (1631).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ رواه ابن ماجه (3660) وحسّنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (4 / 129).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ... رواه مسلم (2674).
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ رواه ابن ماجه (242)، وحسّن اسناده الألباني في "أحكام الجنائز" (ص 176 - 177).
ويراجع للفائدة ، هذه المادة النافعة : "اترك أثرا قبل الرحيل" ، لفضيلة المشرف العام :
الوجه الثالث :
أن يترك العبد في صحائف أعماله من الأثر الصالح ، والعمل الحسن : ما يلقى الله عز وجل به ، وألا يكون من القاسية قلوبهم عن ذكر الله ، ومن ضيعوا أعمارهم سدى ، وكان أمرهم فرُطا ، ضائعا ، وحياتهم سبهللا !!
قال الإمام البخاري رحمه الله :
" بابُ احْتِسَابِ الآثَارِ " .
ثم روى (656) عن أَنَس: " أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرُوا المَدِينَةَ، فَقَالَ: أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ: خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ، أَنْ يُمْشَى فِي الأَرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ .
وَقَالَ قَتَادَةُ: " لَوْ كَانَ مُغْفِلًا شَيْئًا مِنْ شَأْنِكَ يَا ابْنَ آدَمَ أَغْفَلَ مَا تُعَفِّي الرِّيَاحُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ " .
"تفسير الطبري" (19/411) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" وفي قوله: وآثارهم قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل (4) بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا". رواه مسلم ... "
وقد وردت في هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: " خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد). قالوا: نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: (يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم).
وهكذا رواه مسلم، من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن، كلاهما عن أبي نضرة -واسمه: المنذر بن مالك بن قطعة العبدي-عن جابر...." .
ثم قال بعد رواية ما فيه من الآثار :
"وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب، فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم. " انتهى، "تفسير ابن كثير" (6/565-568) .
ولا شك أن العاقل الفطن الحريص : يجتهد على أن يضرب في كل غنيمة بسهم ، وأن يبادر الأجل بالباقيات الصالحات . وقد قال الله تعالى :
فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ الزمر/17 – 18.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ).
أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول: ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من وحي الكتاب والسنة... وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) أي: يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسنا، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن. ويدل لهذا آيات من كتاب الله " انتهى. "أضواء البيان" (7 / 52).
والمستحبات أبوابها كثيرة ومتنوعة، وقد يتزاحم عدد منها عند المسلم ؛ فمن الفقه أن يوازن بينها، ويقدم الأحسن منها .
ولا شك أن من أوجه الموازنة لمعرفة الأحسن؛ النظر إلى أيها أكثر أجرا ويستمر نفعه ولا ينقطع بموته.
والله أعلم.