الحمد لله.
أولًا:
أما قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) مريم /83-84 ، فإنها ظاهرة في أهل الكفر بالله تعالى .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " وهذا من عقوبة الكافرين أنهم -لما لم يعتصموا بالله، ولم يتمسكوا بحبل الله، بل أشركوا به ووالوا أعداءه، من الشياطين- سلطهم عليهم، وقيضهم لهم، فجعلت الشياطين تؤزهم إلى المعاصي أزا، وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا، فيوسوسون لهم، ويوحون إليهم، ويزينون لهم الباطل، ويقبحون لهم الحق، فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشربها، فيسعى فيه سعي المحق في حقه، فينصره بجهده ويحارب عنه، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل، وهذا كله، جزاء له على توليه من وليه وتوليه لعدوه، جعل له عليه سلطان، وإلا فلو آمن بالله، وتوكل عليه، لم يكن له عليه سلطان، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي : على هؤلاء الكفار المستعجلين بالعذاب .
إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي : أن لهم أياما معدودة ، لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون ، نمهلهم ونحلم عنهم مدة ، ليراجعوا أمر الله ؛ فإذا لم ينجع فيهم ذلك : أخذناهم أخذ عزيز مقتدر " انتهى من " تفسير السعدي"(ص500).
ثانيًا:
أما قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ الزخرف/36، فهذه الآية بمعنى الآية السابقة، قال ابن زيد : " في قوله: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين، على الكافرين تؤزهم أزا [مريم: 83] فقرأ: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [الزخرف: 36] ، قال: تؤزهم أزا، قال: تُشْلِيهم إشلاء على معاصي الله تبارك وتعالى، وتغريهم عليها، كما يغري الإنسان الآخر على الشيء" انتهى من "تفسير الطبري" (15/ 627).
قال ابن كثير رحمه الله : " يقول تعالى: ومن يعش أي: يتعامى ويتغافل ويعرض، عن ذكر الرحمن . والعشا في العين: ضعف بصرها. والمراد هاهنا: عشا البصيرة .
نقيض له شيطانا فهو له قرين ، كقوله: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115] ، وكقوله: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [الصف: 5] ، وكقوله: وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [فصلت:25] .
ولهذا قال هاهنا: وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءنا أي: هذا الذي تغافل عن الهدى : نُقَيِّض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله يوم القيامة ، يتبرم بالشيطان الذي وكل به، قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أي: فبئس القرين كنت لي في الدنيا " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 228).
وحاصل ذلك : أن هؤلاء الكافرين ، لما أعرضوا عن هدى الله ، وزاغوا عن صراطه المستقيم ، تلقفتهم الشياطين ، فاجتالتهم ، وزينت لهم ما فيه من الكفر والضلال ، فتمادوا في ذلك ، وزادوا ضلالا على ضلالهم ، غير معذورين في ذلك ، ولا مكرهين على شيء منه ، بل هم اختاروا أول الطريق، واختاروا أعمالهم، وأفعالهم، لكن خذلهم الله من هداه ، وحرمهم من عصمته وتوفيقه لهم ، ووكلهم إلى أنفسهم الأمارة بالسوء ، وسلط عليهم شياطينهم ، يزينون لهم سوء أعمالهم ، ويغرونهم بضلالهم .
ثم إن الآيات السابقة ، وإن كانت في أصلها لأهل الكفر بالله تعالى، فإن أهل الإسلام قد يصيبهم من ذلك ، ما يصيبهم ، بسبب عصيانهم ، وتفريطهم في أمر ربهم .
ثالثًا:
وأما من كان به من مس من جنون ، أو صرع ، أو سحر ؛ وقد وقع به ذلك ابتلاء ، ومصيبة ، من غير تسبب منه لذلك ، بمعصية من الله ؛ فهذا من أهل الأعذار، فيما يفعلونه بغير اختيار منهم له ، وليس لهم مدخل في هذه الآيات .
وإنما السحر ، والصرع : مرض كسائر الأمراض ، وابتلاء من الله ، يبتلي به من شاء من عباده.
ومن غلبه الصرع ، أو السحر ، بحيث صار به في حد من لا يعقل ، أو لا يدرك ما يقول ويفعل: فهو معذور ، وقد رفع عنه القلم حتى يفيق ؛ لأنه يشبه المجنون .
ولا مدخل لذلك ، على أية حال ، بالآيات السابق ذكرها في أول الجواب ، وبيان معانيها .
وأما إذا كان به مع المس بعض عقله ، بحيث يدرك بعض الإدراك ، ويفهم بعض الفهم ، فهو مسئول عما يقول ويفعل ، بحسب إدراكه وفهمه ، وعلى من يلي أمره مراعاة ذلك ، والحرص على العناية به وتذكيره .
وهكذا الحال إذا كان يصرفه عن بعض الصلوات ، أو يشغله عنها، أو يتسلط عليه حتى يفوت وقتها ، فالواجب عليه أن يصليها متى زال عنه هذا السبب العارض .
والحاصل :
أن السحر أو المس إن كان له تأثير قوي على الإنسان يمنعه من القيام للصلاة أحيانا ، أو يدفعه للغضب وقول ما لا ينبغي ، فهذا أمر خارج عن إرادته ، وهو معذور فيه ، لكن يلزمه قضاء الصلاة حال إفاقته أو زوال التأثير عنه .
والله عز وجل يبتلي عبده بما يشاء ، تكفيرا لسيئاته ، أو رفعا لدرجاته ، وقد يتأخر الشفاء لحكم كثيرة منها : زيادة الحسنات للمبتلى ، وزيادة تعلقه بربه ، وتذلله له ، وانكساره بين يديه ، وافتقاره إلى عفوه ورحمته ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ رواه البخاري (5642) ، ومسلم (2573).
وانظر جواب السؤال: رقم :(129150)، (151005).
وإنما يجب على العبد أن يسعى في علاج ذلك، وإصلاح أمره ، ودفع تسلط السحرة وأهل الفجور عليه ، بما يمكنه من الأدوية ، والرقى الشرعية .
والله أعلم