الحمد لله.
أولا:
صلتك لعمتك مع أنها مقاطعة لكم؛ هو من حقيقة صلة الرحم التي حث عليها الشرع.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا رواه البخاري (5991).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن المكافئ : مقابل الفعل بمثله.
والواصل للرَّحم ، لأجل الله تعالى : يصلها تقربا إليه ، وامتثالا لأمره ، وإن قطعت .
فأما إذا وصلها حين تصله : فذاك كقضاء دين .
ولهذا المعنى قال: ( أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ ) - الْكَاشِح: الْمُبْغِضُ الْمُعَادِي -، وهذا لأن الإنفاق على القريب المحبوب مشوب بالهوى ، فأما على المبغض فهو الذي لا شوب فيه " انتهى من "كشف المشكل" (4 / 120 – 121).
وصلة العمة من صلة الأرحام الواجبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وصلة الأرحام : واجبة بالإجماع " انتهى من "مجموع الفتاوى" (29 / 186).
وينبغي للمسلم أن يتنبه إلى أنه إذا وصل أقاربه وهم مقاطعون له، فهو مأجور، وهم آثمون، وهو في موقف كريم ، يشعر به هؤلاء الأقارب ولو كتموه، والله تعالى معينه عليهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ؟
فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ) رواه مسلم (2558).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" (تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ ) الْمَلُّ: الرماد الحار...
ومعناه كأنما تطعمهم الرماد الحار؛ وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم ، بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن ، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه... " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (16 / 115).
ثانيا:
إذا كانت هذه العمّة تعرض عن الكلام معك، فهذا ليس عذرا لمقاطعتها؛ بل تبادرين أنت بصلتها؛ ولا تقطعي ذلك ، إلا إذا كان في المواصلة معها ضرر وأذى عليك؛ كأن تقابلك في كل مرة بسب وشتم ، وكلام مؤذ، ففي هذه الحال اكتفي بإلقاء السلام عليها؛ لكي لا تقعي في الهجر المحرم.
عن أَبِي أَيُّوب الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ رواه البخاري (6077)،ومسلم (2560).
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" وعن الرجل يهاجر الرجل ، ثم يبدو له فيسلم عليه ، من غير أن يكلمه في غير ذلك ، وهو مجتنب لكلامه هل تراه قد خرج من الشحناء؟
قال -ابن القاسم -: سمعت مالكا يقول: إن كان مؤذيا له : فقد برئ من الشحناء .
قال ابن القاسم: وأرى إن كان غير مؤذ له أنه غير بريء من الشحناء ...
قال الإمام القاضي: معنى قول مالك وابن القاسم: إن المسلم يخرج من الشحناء : إن كان المسلَّم عليه مؤذيا للذي ابتدأ بالسلام ، ولم يضر الذي ابتدأ بالسلام تركه لكلام المؤذي .
وإن كان المسلم عليه غير مؤذ للذي ابتدأ بالسلام : فلا يخرج الذي ابتدأ بالسلام سلامه من الشحناء ، حتى يكلمه ؛ إذ لا عذر له في ترك كلامه " انتهى من "البيان والتحصيل" (10 / 60).
ولا يلزمك أن تكرري كلامها ، والسلام عليها كلما قابلتِها ، مع إعراضها عنك ، بل يكفيك في هذا أن تحاولي معها حتى تري إصرارها على المقاطعة ، فحينئذ لا يلزمك أن تكرري المحاولة معها ، وإن كان هذا هو الأحسن والأفضل ، لعل قلبها يلين يوما ما .
أما إذا كانت عمتك تكلمك ولا تقاطعك ، وإنما هي تقاطع والدتك فقط ، فينبغي أن تتكلمي معها، وتحاولي الإصلاح بينها وبين والدتك ، واعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في شيء من الكذب من أجل الإصلاح بين الناس ، وذلك لما يترتب عليه من مصلحة ولا مفسدة فيه ، فلا حرج عليك أن تقولي لها : إن أمي تذكرك بالخير .. ونحو ذلك ، وتقولي الكلام نفسه لوالدتك ، فلعل الله أن يجعلك سببا للإصلاح بينهما .
والله أعلم.