الحمد لله.
أولا:
لا يجوز العمل في بناء ما يستعمل للمعصية ، كشرب الخمر أو بيعها، أو لعب القمار، أو الربا؛ لما في ذلك من الإعانة على المعصية، وقد قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ المائدة/2 .
وشرط الإجارة أن يكون العمل مباحا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " لا يجوز أن يعان أحد على الفاحشة ولا غيرها من المعاصي ؛ لا بحلية ولا لباس ولا مسكن ولا دابة ولا غير ذلك ؛ لا بِكِرَى ولا بغيره . والله أعلم "انتهى من " مجموع الفتاوى " (30/195) .
وقال البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 559): "(ولا يصح الاستئجار على حمل ميتة ونحوها ، لأكل لغير مضطر)؛ لأنه إعانة على معصية ؛ فإن كان الحمل لمضطر صحت.
(و) لا يصح الاستئجار على حمل (خمر) لمن (يشربها) لأنه - صلى الله عليه وسلم - " لعن حاملها والمحمولة إليه .
(ولا أجرة له) أي لمن استؤجر لشيء محرم ، مما تقدم" انتهى.
وفي "المعايير الشرعية" ، ص554: "يشترط في منفعة الشخص المعقود عليها أن تكون معلومة علما نافيا للجهالة، وأن تكون مقدورا على أدائها، وأن تكون مباحة شرعا" انتهى.
ثانيا:
اختلف الفقهاء فيمن استؤجر لعمل محرم، هل تحل له الأجرة؟
والمشهور أنها لا تحل؛ لعدم صحة الإجارة.
وروي عن أحمد رحمه الله أن الإجارة تصح، لكن لا تطيب الأجرة للأجير.
قال في "المبدع" (4/ 416): "(ولا يجوز الاستئجار على حمل الميتة) أي للأكل، ويستثنى منه المضطر، قاله في " الرعاية " وغيرها (والخمر) أي للشرب ; لأنه - عليه السلام - لعن حاملها والمحمولة إليه، ويصح لإلقائها وإراقتها، وفي " الفروع " أن طرحها : كأكلها .
(وعنه: يصح) لأنه لا يتعين عليه (ويكره أكل أجرته) لاختلاف العلماء في حرمته .
وعنه فيمن حمل خنزيرا لذمية أو خمرا لنصراني: أكره أكل أجرته، ويقضى للحمال بالكراء، فإن كان لمسلم فهو أشد ...
وفي " الرعاية " هل يأكل الأجر أو يتصدق به؟ فيه وجهان" انتهى.
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الخلاف في مذهب أحمد، واختار ما رواه ابن أبي موسى عن الإمام أحمد : أنه يلزم المستأجر أن يدفع الأجرة ، ولكنها لا تحل للأجير ، ويلزمه أن يتصدق بها .
فقال رحمه الله : "وأما مسألة حمل الخمر والميتة والخنزير للنصراني ، أو للمسلم : فقد تقدم لفظ أحمد أنه قال فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني: فهو يكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشد ...
قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني.
قال: فإن فعل : قُضي له بالكراء .
وإن آجر نفسه لحمل محرّم لمسلم كانت الكراهة أشد، ويأخذ الكراء.
وهل يطيب له أم لا على وجهين، أوجههما: أنه لا يطيب له، وليتصدق به. وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي، قال: وإذا آجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة؛ كره. نص عليه. وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها.
إذا ثبت هذا : فيقضى له بالكراء. وغير ممتنع أن يقضى بالكراء وإن كان محرما، كإجارة الحجام، فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة ، مع كونها محرمة عليه على الصحيح.....
ثم قال رحمه الله:
والأشبه -والله أعلم- طريقة ابن أبي موسى، فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت لقصد المعتصر، والمستحمل، فهو كما لو باع عنبا أو عصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانا، بل يُقضى له بعوضه .
كذلك هاهنا : المنفعة التي وفاها المؤجر ، لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها ، إنما كان من جهة المستأجر ، لا من جهته.
ثم نحن نحرم الأجرة عليه، لحق الله سبحانه ، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنا أو التلوط أو القتل أو الغصب أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم ، لا لأجل قصد المشتري، فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا، فإنه لا يُقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة.
ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقا، ولا بالفساد مطلقا، بل هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه مال الجعل والأجرة، وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة والجعل، ولهذا في الشريعة نظائر.
وعلى هذا فنص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني ، لا ينافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل، وعن ثمنه، ثم نقضي له بكرائه .
ولو لم نفعل هذا ، لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل ، يستعينون به على المعصية : قد حصلوا غرضهم منه، ثم لا يعطونه شيئا، وما هم بأهل أن يعاونوا على ذلك... " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 42- 46).
ثالثا:
حاصل ما تقدم أن من استؤجر لعمل يُستعان به على محرم، كحمل الخمر، أو بناء مبنى يُشرب فيه الخمر ، - كما ورد في السؤال- فإنه يأخذ الأجرة، ولكنها لا تحل له، بل يتخلص منها، وذلك مراعاة لحق الله، لأنه تعمد اقترف الحرام بعمله، فلا يطيب له العوض.
لكن إن كان جاهلا بغرض المستأجر، كما ورد في السؤال ، أو كان جاهلا بتحريم عمله : فإن الأجرة تحل له ، لأنه لم يتعمد اقتراف الحرام.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (15/ 8) فيمن عمل في شركة تأمين محرمة جاهلا:
"أولا: التأمين على الحياة من التأمين التجاري، وهو محرم؛ لما فيه من الجهالة والغرر، وأكل المال بالباطل.
والعمل في هذه الشركة لا يجوز؛ لأنه من التعاون على الإثم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .
ثانيا: الأجور والأموال التي اكتسبتها من العمل في تلك الشركة ، قبل علمك بالتحريم : لا بأس من الانتفاع بها؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.
وعليه فلك المطالبة بأجرة عمل اليومين، ويحل لك الانتفاع بالمال إذا كنت لم تعلم بغرض المستأجر.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (107520) .
والله أعلم.