الحمد لله.
اتفق أهل العلم على النهي عن التجارة بالبيع والشراء إذا أذّن الاذان الثاني لصلاة الجمعة.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الجمعة/9.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) أي: اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة.
ولهذا اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني " انتهى من "تفسير ابن كثير" (8 / 122).
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ): وهذا مجمع على العمل به، ولا خلاف في تحريم البيع...
لأن البيع إنما منع للاشتغال به، فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها، فهو حرام شرعا " انتهى من "أحكام القرآن" (1805 - 1806).
لكن مع القول بتحريم البيع في هذا الوقت؛ إلا أن أهل العلم اختلفوا في صحته:
فمن ذهب إلى أن النهي الراجع إلى أمر خارج عقد البيع لا يقتضي الفساد؛ فإنه قال بصحة البيع ، مع إثم صاحبه؛ ومعنى هذا : أن ما اشتراه هذا الرجل بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة ، يصبح ملكا له ، ويصح التصرف فيه بالأكل والتصدق ونحو هذا، وهذا مذهب الحنفية والشافعية.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن ما يشتريه الرجل بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة يكون عقده باطلًا ، ولا يصح شرعا أن يتملكه؛ لأن النهي يقتضي الفساد؛ وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
قال ابن رشد:
" وهذا أمر مجمع عليه فيما أحسب، أعني: منع البيع عند الأذان الذي يكون بعد الزوال ، والإمام على المنبر.
واختلفوا في حكمه إذا وقع هل يفسخ أم لا؟...
فالمشهور عند مالك : أنه يفسخ، وقد قيل: لا يفسخ، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة.
وسبب الخلاف كما قلنا غير ما مرة: هل النهي الوارد لسبب من خارج : يقتضي فساد المنهي عنه ؟ أو لا يقتضيه؟ " انتهى من "بداية المجتهد" (3 / 327).
فتبين بهذا :
أن في صحة هذا البيع خلافا بين العلماء ، فمن صححه أجاز للمشتري الأكل منه ، ومن أفسده أوجب عليه رده ، وحرم عليه الأكل منه ، لأن العقد الفاسد لا يترتب عليه أثره ، من انتقال ملك السلعة إلى المشتري ، وانتقال ملك الثمن إلى البائع .
فإن تعذر الرد ، أو كان العاقد يرجح صحة العقد ، أو يقلد من يفتي بذلك ، فإنه يحكم بصحة العقد ، ويحل له ولغيره الانتفاع بما اشتراه .
ينظر جواب السؤال رقم : (184263) ، كما ينظر "مجموع الفتاوى" (29/411-413) .
هذا إذا كان السؤال عن انتفاع المشتري نفسه بما اشتراه .
أما إذا كان السؤال عن انتفاع غير المشتري بما اشتراه المشتري ، فإنه يجوز له ذلك ، لأن التحريم حينئذ يتعلق بالعاقد وحده ، ولا يتعلق بمن انتقل إليه هذا الطعام بطريق مباح ، كالهدية أو إطعام الرجل لأولاده وأهل بيته ونحو ذلك .
روى عبد الرزاق في "المصنف" (8 / 150) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارًا يَأْكُلُ الرِّبَا، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْعُونِي؟
فَقَالَ: "مَهْنَؤُهُ لَكَ، وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ ".
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" رجل علم أن مصدر أموال أبيه من الحرام، فهل يأكل من طعام أبيه؟ وإذا لم يأكل من طعام أبيه فهل يكون ذلك من العقوق؟
فأجاب:
الرجل الذي علم أن مال أبيه من الحرام: إن كان حراما بعينه، بمعنى: أنه يعلم أن أباه سرق هذا المال من شخص: فلا يجوز أن يأكله، لو علمت أن أباك سرق هذه الشاة وذبحها فلا تأكل، ولا تجب دعوته.
أما إذا كان الحرام من كسبه يعني: أنه هو يرابي أو يعامل بالغش أو ما يشابه ذلك فكل، والإثم عليه هو.
ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكل من مال اليهود ، وهم معروفون بأخذ الربا وأكل السحت، أهدت إليه يهودية شاة في خيبر مسمومة ليموت ، ولكن الله عصمه من ذلك إلى أجل مسمى.
دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه وأكل، اشترى من يهودي طعاما لأهله وأكله هو وأهله. فليأكل والإثم على والده " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (188 / 14).
والله أعلم.