الحمد لله.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ويشرب ما اعتاد قومه أكله وشربه، مما أحله الله له ، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم لما تفرقوا في البلدان بسبب الفتوحات؛ أكل كل واحد منهم ما وجده من المباحات في تلك البلدان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن : لم يكن كل نوع منه كان موجودا في الحجاز، فلم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة، ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس.
ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى: كالشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وأرمينية، وأذربيجان، والمغرب، وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم، أو مجلوبة من مكان آخر؛ فليس لهم أن يظنوا أن ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل مثله ولم يلبس مثله....
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يَطْعَم ما يجده في أرضه، ويلبس ما يجده، ويركب ما يجده، مما أباحه الله تعالى.
فمن استعمل ما يجده في أرضه فهو المتبع للسنة.
كما أنه حج البيت من مدينته، فمن حج البيت من مدينة نفسه ، فهو المتبع للسنة ، وإن لم تكن هذه المدينة تلك " انتهى من "مجموع الفتاوى" (21 / 314 - 316).
وقال أيضا:
" وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير، ونحو ذلك من قوت بلده.
فهل التأسي به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير، حتى يفعل ذلك من يكون في بلاد لا ينبت فيها التمر، ولا يقتاتون الشعير، بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك؟
ومعلوم أن الثاني: هو المشروع.
والدليل على ذلك : أن الصحابة لما فتحوا الأمصار ، كان كل منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده ، من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها..." انتهى من "مجموع الفتاوى" (22 / 325).
فالنبي صلى الله عليه وسلم : كان يشرب الماء البارد لأنه الموافق لعادة وطبع ومناخ أهل بلده.
ثم إن هذا هو الموافق لطباع الناس عامة، فإن المراد به هنا : الماء الخالص، الذي يشربه للرِّي من الظمأ ، لا المشروب الذي يشربه اشتهاءً، أو تفكها ، أو لحاجة ، أو نحو ذلك ، مما جرت به عادات الناس، بحسب أزمانهم، وبلدانهم.
فللمسلم أن يأكل ويشرب ما يوجد في بلده مما لم يأكله النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يشربه ، ولا حرج في ذلك.
عَنْ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ: " أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ.
فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ!
فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَرَفَعَ يَدَهُ.
فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ .
قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ" رواه البخاري (5537) ، ومسلم (1945).
وعند مسلم (1944) عن ابْنَ عُمَرَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ سَعْدٌ، وَأُتُوا بِلَحْمِ ضَبٍّ ، فَنَادَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي " .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فراعى عادته وشهوته، فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه، وكانت نفسه لا تشتهيه، أمسك عنه، ولم يمنع من أكله من يشتهيه، ومن عادته أكله " انتهى من "زاد المعاد" (4 / 199).
وهذا متأكد بقاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (231261).
ولكن إذا كان المشروب ساخنا جدا ، بحيث يؤذي شربُه على تلك الكيفية ؛ فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تركه حتى تذهب شدة حرارته.
عن قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ : " أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ، غَطَّتْهُ حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ أَعْظَمُ للبرَكَةِ " رواه الدارمي في "السنن" (2 / 1301) وابن حبان "الإحسان" (5207) وغيرهما. والفور الغليان ، "فيض القدير" (5/244) . والمراد : الطعام الذي ذهب غليانه ودخانه . ينظر : "السلسلة الصحيحة" للألباني (659) .
وفي سنده قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وقد ضعفه غير واحد من أهل العلم؛ ولخّص حاله الحافظ ابن حجر في "التقريب" (ص 455)؛ بقوله:
" صدوق له مناكير" انتهى.
لكن تابعه على رواية هذا الحديث عن ابن شهاب ابن لهيعة عن عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ ، وقد رواه عن ابن لهيعة عبد الله بن المبارك وقتيبة بن سعيد، كما في "المسند" للإمام أحمد (44 / 522)، ولذا حسنه محققو المسند، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2 / 262).
فالحاصل؛ أن المسلم إذا شرب المشروبات الساخنة المباحة كالقهوة والشاي وغيرهما ، فلا حرج عليه في ذلك ، ولا سنة في شربه ، ولا في تركه ، في نفسه .
لكن يستحب له أن يشرب الساخن، على حالة لا تضره ، ولا يتأذى به ؛ وذلك يكون بعد ذهاب شدة حرارتها .
بل الذي يدعي أن شرب هذه الأشياء مخالف للسنة : هو الواقع في مخالفة السنة ، كما تقدم ذلك في كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
والله أعلم.