الحمد لله.
الاقتباس من القرآن معناه: تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن ؛ لا على أنه منه بألا يقال فيه (قال الله تعالى) ونحوه، فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسًا، وإنما يكون استشهادا، واستدلالا، ونحو ذلك. "الإتقان"(1/ 386).
واقتباس شيء من القرآن في الدعاء ونحوه كالخطب والمواعظ : مقبول .
انظر : "الإتقان" (1/ 387).
قال الإمام ابن عقيل: "تضمين القرآن لمقاصد ، تضاهي مقصود القرآن : لا بأس به ؛ تحسينًا للكلام، كما يضمن في الرسائل إلى المشركين : آيات تقتضي الدعاية إلى الإسلام.
فأما تضمين كلام فاسد : فلا يجوز" انتهى من " الآداب الشرعية"(2/ 289).
وانظر في تفصيل حكم الاقتباس جواب السؤال رقم : (119673)، ورقم: (103923).
ومما ثبت في السنة منذلك: ما رواه البخاري (1127) ، ومسلم (775) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَيْلَةً، فَقَالَ: أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] .
ومن أمثلة اقتباسات السلف من القرآن: ما رواه البخاري في صحيحه (6736) عن هُزَيْلِ بْنَ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: " سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَسَيُتَابِعُنِي.
فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ .
فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لاَ تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ فِيكُمْ!!
وقول ابن مسعود هنا، اقتباس من قول الله تعالى : قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ الأنعام/56.
وذكروا أنه لما احتضر هارون أمير المؤمنين، أمرني أن آتيه بأكفانه، فأتيته بها، ثم أمرني فحفرت له قبره، ثم أمر فحمل إليه، وجعل يتأمله ويقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ الحاقة/28-29 .
انظر: "العاقبة وذكر الموت" ، لعبد الحق الأشبيلي (128، 130).
ثانيا:
وأما اقتباس نفس الدعاء الوارد في القرآن، ودعاء الله به: فهذا كثير أيضا فاش، بل من هذه الأدعية ما أثنى الله على عباده المؤمنين به ، كما في قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ البقرة/201 .
روى البخاري (4522) ، ومسلم (2690): عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
وهذا أمر معروف فاش في الأدعية النبوية، والأذكار المسنونة، وما زال هذا دأب الصالحين، أن يتخيروا من أدعية القرآن والسنة : ما يناسب حاجاتهم، وأحوالهم، ويرون أن هذا أفضل وأبلغ من مجرد دعاء المرء بكلامه .
وأما إن كان على وجه ما ورد في الدعاء ، من أن يرى ذم الكسل، فيتعوذ بالله أن يثبطه على العبادة ، أو يرى مدح المسارعة إلى الخيرات، فيسأل الله أن يوفقه إليها : فهذا أيضا حسن مشروع ، لا حرج فيه ، لكن مع ترك تكلف المناسبات في ذلك ، بل يدعو بما يتيسر من ذلك ، إن ظهر له وجهه ، ويدعو بما أعجبه وأحبه من خير الدنيا والآخرة.
ويدل لذلك ما وراه مسلم في صحيحه (772) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ .. " .
والشاهد منه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما ذكر في الحديث في صلاته في الليل ، وفيه التسبيح والدعاء (السؤال) عند ورود ما يناسب ذلك من الآيات.
قال النووي رحمه الله: " قَوْلُهُ : ( يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ): فِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذِهِ الْأُمُورِ لِكُلِّ قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا" انتهى من "شرح مسلم" (6/62).
وقد صرح بقريب من ذلك الوزير العالم ابن هبيرة الحنبلي رحمه الله، قال:
" وفيه أيضًا من الفقه : أنه إذا كان في صلاة ، فمرت به آية رحمة ، فشاء أن يسألها الله تعالى، مغتنمًا ما في القرآن من مناسبة الطلب : سألها ؛ فإن القرآن وحي مجدد. وإذا مر بآية فيها تسبيح الله تعالى فإنه يسبح الله ، بما روي في الأخبار...
وإذا مر بآية عذاب للكافرين : استعاذ بالله تعالى ، من مثل أن يقرأ قوله: واستغفر لذنبك ، فيقول الحديث المروي وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) .
ومثل أن يأتي قوله عز وجل: ما لكم لا ترجون لله وقارًا ، فيقول ها هنا: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) .
وفي مثل قوله سبحانه في ذكر تسبيحه سبحانه وتعالى: يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
وقد سبق أن معنى قولنا: (سبحان الله) أنه تنزيه له عز وجل عن كل مالا يجوز عليه، ثم يقول: (وبحمده) أي وبحمده سبحته، ولذلك يقول: (سبحان الله العظيم).
وهذا فلا أراه إلا في النافلة ؛ فأما الفريضة : فيقصرها على أذكارها ، مع التفكر في كل ذكر من أذكارها، فإنها حاوية شاملة جامعة، وليكن في إنجازه لها مبادرًا الوسواس " انتهى من "الإفصاح" (2/237).
وفي "مطالب أولي النهى" ، للشيخ مصطفى الرحيباني رحمه الله (1/484): " (و) لمصل (سؤال) الله الرحمة (عند) قراءته أو سماعه (آية رحمة، و) له (تعوذ) ، أي: أن يستعيذ بالله (عند) مروره على (آية عذاب) لحديث حذيفة: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، إلى أن قال: إذا مر بآية فيها تسبيح، سبح، وإذا مر بسؤال؛ سأل، وإذا مر بتعوذ، تعوذ . مختصر، رواه مسلم " انتهى.
فإذا جاز ذلك في صلاته، سواء قلنا إنه خاص بالنفل، أو عام في الفرض والنفل ، على خلاف بين أهل العلم في ذلك ؛ فالأمر في خارج الصلاة أوسع، كما لا يخفى .
والله أعلم .