الحمد لله.
أولا : ننبه على أن كتاب الكبائر للإمام الذهبي توجد له طبعتان :
الأولى : وهي الأكثر تداولا ، والمليئة بالأحاديث الضعيفة ، والقصص الواهية ، وقد ذكرت هذه القصة فيه ، وهذه الطبعة مشكوك في نسبتها للإمام الذهبي رحمه الله، وقد جزم عدد من الباحثين المعاصرين ببطلان هذه النسبة ، وأن النسخة الصغرى، التي طبعت مؤخرا: هي حقيقة كتاب الكبائر، للذهبي.
الثانية : وهي الطبعة الصحيحة التي قام بتحقيقها محي الدين مستو ، وقام بتحقيقها أيضا مشهور حسن سلمان ، وهذه الطبعة خالية من الأحاديث الضعيفة ، والقصص والحكايات الواهية ، ولذا لم توجد فيها هذه القصة الواردة في السؤال .
ثانيا :
القصة المنسوبة لكتاب "الكبائر" جاءت فيه في الطبعة الشائعة المشكوك فيها ( ص65) ، قال :" وَمِمَّا جَاءَ فِي فضل الْإِحْسَان إِلَى الأرملة واليتيم عَن بعض العلويين : وَكَانَ نازلاً ببلخ من بِلَاد الْعَجم ، وَله زَوْجَة علوِيَّة ، وَله مِنْهَا بَنَات ، وَكَانُوا فِي سَعَة ونعمة ، فَمَاتَ الزَّوْج وَأصَاب الْمَرْأَة وبناتها بعده الْفقر والقلة ، فَخرجت ببناتها إِلَى بَلْدَة أُخْرَى خوف شماتة الْأَعْدَاء ، وَاتفقَ خُرُوجهَا فِي شدَّة الْبرد ، فَلَمَّا دخلت ذَلِك الْبَلَد أدخلت بناتها فِي بعض الْمَسَاجِد المهجورة وَمَضَت تحتال لَهُم فِي الْقُوت ، فمرت بجمعين : جمع على رجل مُسلم ، وَهُوَ شيخ الْبَلَد ، وَجمع على رجل مَجُوسِيّ ، وَهُوَ ضَامِن الْبَلَد ، فَبَدَأت بِالْمُسلمِ وشرحت حَالهَا لَهُ ، وَقَالَت : أَنا امْرَأَة علوِيَّة ، وَمَعِي بَنَات أَيْتَام أدخلتهم بعض الْمَسَاجِد المهجورة ، وَأُرِيد اللَّيْلَة قوتهم . فَقَالَ لَهَا : أقيمي عِنْدِي الْبَيِّنَة أَنَّك علوِيَّة شريفة . فَقَالَت : أَنا امْرَأَة غَرِيبَة مَا فِي الْبَلَد من يعرفنِي . فَأَعْرض عَنْهَا ، فمضت من عِنْده منكسرة الْقلب ، فَجَاءَت إِلَى ذَلِك الرجل الْمَجُوسِيّ ، فشرحت لَهُ حَالهَا ، وأخبرته أَن مَعهَا بَنَات أَيْتَام ، وَهِي امْرَأَة شريفة غَرِيبَة ، وقصت عَلَيْهِ مَا جرى لَهَا مَعَ الشَّيْخ الْمُسلم ، فَقَامَ وَأرْسل بعض نِسَائِهِ وَأتوا بهَا وبناتها إِلَى دَاره ، فأطعمهن أطيب الطَّعَام وألبسهن أَفْخَر اللبَاس وَبَاتُوا عِنْده فِي نعْمَة وكرامة . قَالَ فَلَمَّا انتصف اللَّيْل رأى ذَلِك الشَّيْخ الْمُسلم فِي مَنَامه كَأَن الْقِيَامَة قد قَامَت ، وَقد عقد اللِّوَاء على رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ، وَإِذا الْقصر من الزمرد الْأَخْضَر شرفاته من اللُّؤْلُؤ والياقوت وَفِيه قباب اللُّؤْلُؤ والمرجان ، فَقَالَ يَا رَسُول الله : لمن هَذَا الْقصر؟ قَالَ : لرجل مُسلم موحد . فَقَالَ يَا رَسُول الله : أَنا رجل مُسلم موحد . فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : أقِم عِنْدِي الْبَيِّنَة أَنَّك مُسلم موحد . قَالَ فَبَقيَ متحيراً ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : لما قصدتك الْمَرْأَة العلوية قلت أقيمي عِنْدِي الْبَيِّنَة أَنَّك علوِيَّة ، فَكَذَا أَنْت أقِم عِنْدِي الْبَيِّنَة أَنَّك مُسلم . فانتبه الرجل حَزينًا على رده الْمَرْأَة خائبة ، ثمَّ جعل يطوف بِالْبَلَدِ وَيسْأل عَنْهَا ، حَتَّى دل عَلَيْهَا أَنَّهَا عِنْد الْمَجُوسِيّ ، فَأرْسل إِلَيْهِ فَأَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : أُرِيد مِنْك الْمَرْأَة الشَّرِيفَة العلوية وبناتها . فَقَالَ : مَا إِلَى هَذَا من سَبِيل ، وَقد لَحِقَنِي من بركاتهم مَا لَحِقَنِي .
قَالَ: خُذ مني ألف دِينَار ، وسلمهن إِلَيّ . فَقَالَ : لَا أفعل . فَقَالَ : لَا بُد مِنْهُنَّ . فَقَالَ : الَّذِي تريده أَنْت، أَنا أَحَق بِهِ وَالْقصر الَّذِي رَأَيْته فِي مَنَامك خلق لي ؛ أَتُدِلُّ عَليّ بِالْإِسْلَامِ ، فوَاللَّه مَا نمت البارحة، أَنا وَأهل دَاري ، حَتَّى أسلمنَا كلنا على يَد العلوية ، وَرَأَيْت مثل الَّذِي رَأَيْت فِي مَنَامك ، وَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : العلوية وبناتها عنْدك ؟ قلت : نعم يَا رَسُول الله . قَالَ : الْقصر لَك وَلأَهل دَارك ، وَأَنت وَأهل دَارك من أهل الْجنَّة ، خلقك الله مُؤمنا فِي الْأَزَل . قَالَ : فَانْصَرف الْمُسلم ، وَبِه من الْحزن والكآبة مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله " انتهى .
ثالثا : تتبع إسناد هذه القصة :
هذه القصة ليس لها إسناد أصلا ، وإنما أوردها ابن قدامة في كتابه "التوابين" (ص180) ، وعزاها إلى كتاب "الملتقط" لابن الجوزي ، فقال :" وقرأت في الملتقط أن بعض العلويين .. ثم ساق القصة " . انتهى ، ونقلها عن ابن قدامة سبطُ ابن الجوزي في كتابه "تذكرة الخواص" (ص676) ، وقال :" الملتقط كتاب لجدي أبو الفرج ..". انتهى .
وقد راجعت المطبوع من كتاب "ملتقط الحكايات" لابن الجوزي ، فلم أجد فيه هذه القصة ، وإنما أوردها ابن الجوزي في كتاب "البر والصلة" (ص254) ، فقال :" وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ الْعَلَوِيِّينَ كَانَ بِبَلْخٍ ، وَلَهُ زَوْجَةٌ عَلَوِيَّةٌ ، وَلَهُمَا بَنَاتٌ ، فَافْتَقَرُوا وَمَاتَ الرَّجُلُ ... هكذا ثم ساق القصة بطولها ". انتهى ، ولم يذكر لها إسنادا .
وبناء على ما سبق : يتبين أن هذه الحكاية ليس لها إسناد ، وإنما هي من أحاديث القصاص ، والحكايات التي تذكر في مجالس الوعظ ؛ ولا يخفى ما فيها من المبالغة، والحبكة الروائية للقصص المؤلفة، فالله أعلم بحالها.