الحمد لله.
الذي يظهر أنه لا حرج في إطلاق لفظ " القرآن " أو " المصحف " على غير كتاب الله تعالى، إذا كان ذلك من باب المجاز، والكناية عن بلوغ الكتاب، أو صاحبه: الغاية التي يدركها الناس ، في الإتقان والإحكام، وكان في الكلام من القرائن ما يدفع اللبس، ويوضح المراد.
وقد استخدم العلماء ذلك في مقامين:
الأول: في وصف بعض الرواة بكلمة " المصحف " لإتقانهم وضبطهم وحفظهم .
قال السخاوي في " فتح المغيث " (2/ 116)، في مراتب تعديل الرواة: " ومن صيغ هذه المرتبة: كأنه مصحف "، انتهى .
ونقل الذهبي في " السير " (7/ 166) قول شعبة بن الحجاج: " كنا نسمي مسعرا: المصحف - يعني من إتقانه - "، انتهى .
الثاني: في وصف بعض الكتب، ومنها: سنن أبي داود، وكتاب سيبويه .
قال محمد بن مخلد: " كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث، ولما صنف كتاب (السنن) ، وقرأه على الناس، صار كتابه لأصحاب الحديث كالمصحف، يتبعونه ولا يخالفونه، وأقر له أهل زمانه بالحفظ والتقدم فيه "، انتهى من " سير أعلام النبلاء ": (13/ 212).
وأما كتاب سيبويه ، فقد اشتهر وصفه بذلك على ألسن العلماء .
قال الإمام كمال الدين، أبو العباس الشريشي، رحمه الله:
" ثم أخذ عن الخليل جماعة ، لم يكن فيهم مثل عمرو بن قنبر سيبويه، ويُكنى أبا بشر، وأبا الحسن، وهو من موالي بني الحارث بن كعب؛ فألف كتابه الذي سماه [ الناس] (قرآن النحو)، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل." انتهى، من "شرح مقامات الحريري" (3/462).
وقال الإمام أثير الدين أبو حيان:
أتى سيبويه ناشراً لعلومه * فلولاه أضحى النحوُ عُطْلاً شواهده
وأبدى كتاباً كان فخراً وجوده * لقحطانَ، إذ كعبُ بن عمرو محاتِده
وجمَّع فيه ما تفرق في الورى * فطارِفُه يُعزى إليه وتالده
بعمرو بن عثمان بن قنبرٍ الرضا * أطاعت عواصيه وثابت شوارده
عليك قرانَ النحو، نحوَ ابن قنبر * فآياته مشهودة ، وشواهده
كتابَ أبي بشر، فلا تك قارياً * سواه ، فكلٌ ذاهب الحسن، فاقده
انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (3/36).
وقال البغدادي في " خزانة الأدب " (1/ 371): " وقال المازني: من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه، فليستحي مما أقدم عليه .
وقال أيضًا: ما أخلو في كل زمن من أعجوبة في كتاب سيبويه، ولهذا سماه الناس: قرآن النحو " انتهى .
وقال د. الطناحي: " وسيبويه إمام النحاة، وكتابه العظيم: قرآن النحو، لا يخلو كتاب نحويّ من الأخذ عنه والنقل منه "، "مقدمة تحقيق أمالي ابن الشجري" (113).
وقال د. شوقي ضيف: إِنَّ " الكتاب يُعَدُّ آية خارقة من آيات العقل العربي؛ حتى سمَّاه بعضهم (قرآن النحو)، وقال: " كتاب سيبويه لا يُعَلِّمُ العربِيَّة وقواعدها فحسب، بل يُعَلِّم أيضا أساليبها ودقائقها التعبيرية "، انتهى . انظر: " العصر العباسي " (123)، " المدارس النحوية " (77).
ومع ذلك ، فالأولى ترك ذلك ، وتسمية كل شيء باسمه، وترك التزيُّد في المبالغة في المدح والذم، وحفظ مقام كتاب الله ، من أن يتجرأ كل من استحسن شيئا، أو قدمه: شبهه به، أو جعله له عدلا في قوله وعبارته.
ومثل هذه الإطلاقات : إنما تسوغ لأهل العلم ، يعرفون مقاديرها ، ومواضع الحقيقة والمجاز فيها .
وأما العامة : فيصان مقام كتاب الله ، القرآن الكريم ، في قلوبهم ، عن أن يشبه به غيره ، أو يكون له سَمِيٌّ، أو نظير.
والله أعلم