الحمد لله.
مالك الأشتر ممن حضر من الكوفة إلى المدينة أثناء فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، وكان ممن له ذكر في أحداثها.
روى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8 / 101) والبخاري في "التاريخ الكبير" (7 / 237)
عن كِنَانَة مولى صفية أم المؤمنين قَالَ: " كُنْتُ أَقُودُ بِصَفِيَّةَ لِتَرُدَّ عَنْ عُثْمَانَ فَلَقِيَهَا الأَشْتَرُ فَضَرَبَ وَجْهَ بَغْلَتِهَا حَتَّى مَالَتْ فَقَالَتْ: رُدُّونِي لا يَفْضَحُنِي هَذَا. قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ وَضَعَتْ خَشَبًا مِنْ مَنْزِلِهَا وَمَنْزِلِ عُثْمَانَ تَنْقُلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ ".
ورواته ثقات كما نص على هذا محققو "سير أعلام النبلاء" (2 / 237).
لكنه لم يشترك في قتله ، والروايات تظهر عدم رضاه بذلك.
روى الطبري في "تاريخه" (4 / 520) بإسناده عن عَلْقَمَة: " قلت للأشتر: قَدْ كنت كارها لقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فما أخرجك بِالْبَصْرَةِ؟ ... "، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13 / 57).
وكذا الحال بالنسبة لمحمد بن أبي بكر، فجاءت روايات بأنه كان ممن دخل الدار على عثمان رضي الله عنه ، لكنها نصت على أنه بعد أن نصحه عثمان رضي الله عنه ، وذكّره: كف محمد يده ، وانصرف.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه.
والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحيى ورجع حين قال له عثمان : لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها ، فتذمم من ذلك، وغطى وجهه ، ورجع ، وجاحف دونه فلم يُفِدْ ، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان ذلك في الكتاب مسطورا " انتهى من"البداية والنهاية" (10 / 308).
ولمزيد الفائدة راجعي جواب السؤال رقم : (239015).
ثانيا:
علي رضي الله عنه لم يكن معاديا لعثمان رضي الله عنه ، لكن الذي حصل: هو أن المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، انقسموا إلى فئتين: فئة كانت تنادي بالاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه ، وكان يقودها أهل الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه.
فقد جاء أبو مسلم الخولاني وأناس إلى معاوية ، وقالوا: " أنت تنازع عليا؟ أم أنت مثلُه؟
فقال: لا والله؛ إني لأعلم أنه أفضل مني ، وأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه ، والطالبُ بدمه ؟ فائتوه ، فقولوا له ، فليدفع إليّ قتلةَ عثمان، وأسلِّم له.
فأتوا عليا، فكلموه، فلم يدفعهم إليه" انتهى من"سير أعلام النبلاء" (3/ 140).
ودخل أبو الدرداء وأبو أمامة رضي الله عنهما على معاوية : فقالا له: " يا معاوية! علام تقاتل هذا الرجل؟ فو الله إنه لأقدم منك ومن أبيك سَلْماً، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحق بهذا الأمر منك ، فقال: أقاتله على دم عثمان، وأنه آوى قتلته ، فاذهبا إليه، فقولا له فليُقِدنا من قتلة عثمان ، ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام " انتهى من "البداية والنهاية" (10 / 508).
وفئة ترى أن الوقت ليس مناسبا للاقتصاص، وأن القصاص لا يزيد إلا الشر والفتنة، لأن لهؤلاء القتلة قبائل وأقواما ينتصرون لهم، فلا بد أولا من تأليف القلوب، وجمع الكلمة، وكان يمثل هذا الرأي الخليفة علي رضي الله عنه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة، رضي الله عنهم، وطلبوا منه إقامة الحدود ، والأخذ بدم عثمان ، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان ، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا " انتهى من " البداية والنهاية " (10 / 426).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان، إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء، ودفع أفسد المفسدتين ، بالتزام أدناهما: أولى من العكس ، لأنهم كانوا عسكرا ، وكان لهم قبائل تغضب لهم ... " انتهى من "منهاج السنة" (4 / 407).
والحاصل: إن عليا رضي الله لم يُسْلِمْ قتلة عثمان رضي الله عنه ، لمن طالب بدمه : من باب السياسة الشرعية ، لما في ذلك من مصلحة احتواء الفتنة ، ومنع تطايرها ، وانتشار شرها في المسلمين.
ثالثا:
ومع أن مالكا الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، كانا ممن شارك في هذه الفتنة ، فإنهما لم يباشرا قتل عثمان رضي الله عنه ، ولا شاركا فيه ؛ والظاهر أن عليا رضي الله عنه رأي في توليته لهما مصلحة كان ينظر إليها.
فأما مالك الأشتر: فقد كان قائدا شجاعا ، مطاعا في قومه، وكان ممن لا يميل إلى الهدوء والسكينة ، بل كان يشارك في كل حدث بسيفه أو لسانه ، متطلعا للإمارة.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" الأشتر: ملك العرب ، مالك بن الحارث النخعي ، أحد الأشراف والأبطال المذكورين.
حدث عن: عمر، وخالد بن الوليد، وفقئت عينه يوم اليرموك.
وكان شهما، مطاعا، زَعِرًا، ألَّب على عثمان، وقاتله ، وكان ذا فصاحة وبلاغة " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (4 / 34).
فلا شك أن عليا رضي الله عنه في توليته مالكا الأشتر لاحظ فيه سياسة ومصلحة ؛ فقد كان قائدا خبيرا، له قدرة على مواجهة أي هجوم على مصر، وكانت محل أنظار أهل الشام ، ومرتعا لأهل الفتن ؛ فكانت في حاجة إلى قائد حازم كالأشتر.
ثم كان من مصلحة توليته على مصر أيضا : إبعاده عن قومه ، وأهل شوكته في الكوفة ، فيتقي بذلك بعض ما كان يخشاه من فتنته لو بقي بين قومه ، فلذا لم يوله قبل ذلك على البصرة القريبة من قومه ، وأبعده إلى الموصل.
وأما توليته لمحمد بن أبي بكر على مصر ، فلثقته في محمد؛ لأنه ربيبه، تربّى في حجره، فلا يخشى من قبله فتنة .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
" محمد بن أبي بكر الصديق...
وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية ، ولدته في طريق المدينة إلى مكة ، في حجة الوداع، كما ثبت عند مسلم في حديث جابر الطويل.
ونشأ محمد في حجر علي ، لأنه كان تزوج أمه " انتهى من "الإصابة" (6 / 193 - 194).
وربما لاحظ علي رضي الله عنه أن تولية محمد بن أبي بكر سيكون فيه تسكين لنفوس أهل الفتن من أهل مصر؛ لأن من الشروط التي تروى أنه تراضى عليها عثمان رضي الله عنه مع أهل مصر قبل مقتله ، هو أن يولي عليهم محمد بن أبي بكر.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقد ذكر ابن جرير في "تاريخه" بأسانيده: أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر ، فيه الأمر بقتل بعضهم ، وصلب بعضهم ، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وكان قد كتبه مروان بن الحكم ، على لسان عثمان متأولا قوله تعالى ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة/33].
وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان ، رضي الله عنه ، من جملة المفسدين في الأرض ، ولا شك أنهم كذلك ، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان ، ويكتب على لسانه بغير علمه ، ويزور على خطه وخاتمه ، ويبعث غلامه على بعيره ، بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر ... " انتهى من "البداية والنهاية" (10 / 310).
فالحاصل؛ أن عليّا رضي الله عنه من أكابر الصحابة رضي الله عنهم وأفضلهم ، فلا يشك فيه بمثل هذه الأحداث المحتملة، التي لها أوجه من الحق ، والسياسة ، والمصلحة الشرعية.
والله أعلم.